زياد الرحباني… فلّ، لكنه لم يغب

متابعة بتجــرد: لا أملك شجاعة زياد الرحباني حين قال: “إذا بدّك تفلّ… فلّ! بس إمشي ع جنب، لا تشغلّي تفكيري”. لكني، ومنذ لحظة إعلان خبر وفاته، ظللت أتمسك بالوهم، أردّد لنفسي: “ما تفل…”، لكنه فعلها. فلّ… بصمتٍ يشبهه، وترك وراءه موسيقى تشبهنا، وتمشي معنا.
برحيله، تخسر الموسيقى الشرقية أحد ألمع مجدّديها، ويخسر الوجدان العربي صوتًا لم يهادن، لم يكرر، ولم يخن صدقه. رحل الفنان الذي مشى فوق جسر طويل بين التراث الأصيل والطابع العصري الجريء، وشيّد مسارًا موسيقيًا ومسرحيًا لا يشبه أحدًا، ولم يشبهه أحد.
إرث من التجديد بين فيروز وعاصي
وُلد زياد عاصي الرحباني عام 1956 في بيتٍ يُعرَّف باللحن والكلمة. هو ابن السيدة فيروز والملحن الكبير عاصي الرحباني، لكنّه منذ البدايات قرّر ألا يكتفي بالإرث، بل أن يتمرّد عليه دون أن يهدمه.
رافق والده في البروفات، وشرب من نبع الرحابنة، لكنه اختار أن يكون له صوت مختلف، ولغة تمزج بين “الجاز” الغربي، وهمّ الشارع العربي.
قالها يومًا بصراحته المعتادة: “أنا مش ضد التراث… أنا ضد تكراره.”
عندما أعاد رسم ملامح فيروز
شكل التعاون بين زياد ووالدته فيروز تجربة فنية وإنسانية لا تُكرّر. غنّت من كلماته وألحانه: “كيفك إنت؟”، “مش كاين هيك تكون”، “بكتب اسمك يا حبيبي”.
أعاد تقديم صوتها بلغة جيله، فنقلها من الرومانسية الحالمة إلى الحنين الحادّ، من الغيمات إلى الأرصفة.
كان ذلك انتقالاً تاريخيًا لصوت فيروز، وفتحًا موسيقيًا لعالم كامل من الشباب الذي رأى فيها وجهًا آخر… أقرب، أصدق، وأجرأ.
المسرح كصرخة وعي
لم يكن المسرح بالنسبة لزياد منصة للعروض، بل ساحة مواجهة. في “بالنسبة لبكرا شو”، “نزل السرور”، “فيلم أميركي طويل”، كتب وصاح وغنّى نيابةً عن جيل كامل.
صرخ: “ما خلّونا نحبّ ع راحتنا، ما خلّونا نحلم ع ذوقنا، حتى الحزن بدّن ياه يكون متل حزنن.”
أعماله المسرحية كانت أشبه بـبيانات احتجاج اجتماعي، صادمة أحيانًا، مضحكة إلى حد البكاء، وباكية حتى الضحك. عبّر عن مأزق الإنسان العربي الذي يعرف الحقيقة ولا يملك خيارًا، في زمن يمتهن القمع والانتظار.
صوت جيل بأكمله
منذ الثمانينيات وحتى اليوم، زياد هو اللازمة النفسية التي تواسي كل من يشعر أن هذا العالم ليس مكانه.
أغنياته تتردّد في المقاهي، في السيارات، في العيون التي ترحل عن الوطن وتعود إليه جراحًا.
من “عودك رنان” إلى “بما إنّو”، ومن “ليش تأخرتي” إلى “شو عملتلي بالدني”، كان زياد يُغنينا… من دون أن يطلب منّا التصفيق.
لم يركب الموجة… بل صنعها
أدخل زياد الجاز إلى قلب الأغنية الشرقية، والسياسة إلى المسرح، والصدق إلى الفن. لم يكن يسعى لأن يكون نجمًا، بل أن يكون حقيقيًا، وهذا أصعب.
قال: “أنا ما عندي وطن… عندي زاكرة وطن”، وبهذا اختصر وجع جيل بأكمله، لم يجد في الأوطان ما يوازي الحنين.
وداع لا يشبه الغياب
فلّ زياد، لكن لم يغب.
سيبقى في كل بيت عربي يُشغّل “كيفك إنت؟” دون أن يعرف لماذا تأثر، في كل شاب يعزف على البيانو لأنه صدّق أن الفن قضية، في كل فنانٍ جديد يبحث عن الجملة التي تقول الحقيقة ولا تخاف.
رحل زياد، لكن بقي النبض الرحباني العصري حاضرًا… فينا، وبينا، ولنا.
زياد… فلّ، بس ما غاب.