متابعة بتجــرد: إذا أردت أن تعرف كيف يمكن أن تأخذ عملاً أدبياً كلاسيكياً وتحوله إلى مسخ شائه، فإليك ما فعلته نتفليكس في مسلسل The Decameron، الذي بدأ بثه على المنصة في الأسبوع الماضي.
The Decameron، المكتوبة عام 1348، هي إحدى روائع الأدب العالمي على مر العصور، ويضعها النقاد والمؤرخون، مع “ألف ليلة وليلة” العربية و”حكايات كانتربري” الإنجليزية ضمن أروع ما جاد به الخيال البشري من حكايات شعبية.
ومؤلف The Decameron الإيطالي جيوفاني بوكاشيو، هو واحد من مؤسسي الأدب القصصي لا في إيطاليا وحدها، ولكن في العالم كله، كما يعد واحداً من مؤسسي اللغة الإيطالية نفسها، بعد أن انشقت عن اللاتينية وتحولت إلى لهجة عامية محلية، تحولت على يد بوكاشيو وبتراركا ودانتي إلى لغة معترف بها، لها آدابها وجمالياتها وبلاغتها، وهو أحد الذين مهدوا لخروج أوروبا من العصور الوسطى إلى عصر النهضة بفنونه وآدابه وفلسفته الحديثة.
لا شكل ولا روح!
كل ذلك، وغيره، لم يشفع لصناع مسلسل “نتفليكس” أن يتأنوا قبل أن يقدموا على تحويل العمل إلى مسلسل، ولا أن يحترموا، ولو قليلاً، روح المصدر الذي يضعون اسمه على مسلسلهم، وهو أبعد ما يكون عن الأصل أو روحه.
من ناحية البناء الدرامي الذي تقوم عليه The Decameron يبدأ العمل بمقدمة تصف آثار الطاعون الرهيب الذي إجتاح إيطاليا وبلاد أوروبية أخرى في ذلك الوقت، وكاد يفتك بسكانها جميعاً، حيث تقوم 7 فتيات و 3 شباب باللجوء إلى بيت ريفي ناء للنجاة من الوباء، حيث يقضون الوقت في تبادل الحكايات، على مدار 10 ليال و 10 قصص كل ليلة بإجمالي 100 قصة.
وفي معظم الليالي تتمحور القصص حول “ثيمة”، أو فكرة، واحدة، وحتى عنوان النص الذي اعتمده صناع المسلسل دون فهم يعني “10 أيام”، وهو مكون من كلمتين يونانيتين هما “ديكا” وتعني 10 و”هيميرا” التي تعني يوم.
هذه المقدمة تشبه بناء “ألف ليلة وليلة” مع الفارق أنه يوجد هنا 10 رواة، لا رواية واحدة، كما أنها منسقة وفقاً لموضوعات محددة، بالرغم من كونها متفرقة ولا رابط بينها، على عكس كثير من قصص “ألف ليلة” التي تتشابك وتؤدي كل منها إلى الآخرى بسلاسة.
في المسلسل لا وجود لهذ البناء، الطاعون موجود، وعدد من النساء والرجال يلتقون بالمصادفة في فيلا فارهة محاطة بحديقة، ولكن المسلسل يدور داخل الفيلا فقط وحول العلاقات بين سكانها فقط.
لعنة Bridgerton
بعض هذه العلاقات مستلهم من قصص النص الأصلي، في محاولة لصنع بناء متماسك يجمعه خط واحد ومكان وزمان وشخصيات محددة، وبعضها معاد صياغته بطريقة “عصرية”، أي نسوية، أو مثلية، وفقا لمفهوم “نتفليكس” عن “العصرية”، والنتيجة خليط غريب متنافر للغاية.
أضف إلى ذلك أن المسلسل مصاب بلعنة Bridgerton، ذلك المسلسل “شبه التاريخي” الذي يحاكي التاريخ الملكي البريطاني بطريقة كوميدية يتخيل فيها وجود ملونين ومثليين ونسويين وشباب يتحدثون ويفكرون ويتحركون مثل شباب اليوم.
وهذه المحاكاة الساخرة تصنع تأثيرها من خلال المفارقة والمقارنة بين ما نراه في المسلسل وما نعرفه عن التاريخ، ويفترض أن ذلك، على الأقل في الموسمين الأول والثاني، يزيدنا فهما للتاريخ والحاضر.
وقد أدى نجاح Bridgerton بأجزاءه إلى أن تحول إلى “صرعة” يحاول استنساخها الكثيرون، ولعل أبلغ دليل على أن الفكرة وحدها لا تكفي هو ذلك الفشل الذي مني به مسلسل “الديكاميرون” في محاولته لتقليد “بريدجرتون”. في The Decameron المسلسل فإن إيطاليا العصور الوسطى تعج بذوي الأصول الهندية والآسيوية والإفريقية، وحتى لاتينيين (قبل أن تكتشف أميركا) ولا يبدو أن لكل ذلك معنى أو رسالة ما.
فوضى الكتابة والأسلوب
مسلسل The Decameron من تأليف وإشراف كاثلين جوردان، وشارك في كتابته وإخراجه عدة أسماء، ولكن يبدو أنه لم يجر التنسيق بشكل جيد بين فريق العمل، حيث يتغير الخط الدرامي وطبائع الشخصيات بل وأسلوب الإخراج، بشكل واضح، عبر الحلقات الثمانية التي يتكون منها المسلسل.
يعاني العمل أيضاً من تنافر بين الجو المقبض للطاعون (مقدمة المسلسل عبارة عن فئران مخيفة تجري وتتجمع كأننا أمام مسلسل رعب) والكوميديا التي تصل إلى حدود “الفارص” ( أو المبالغة الشديدة في حركات الجسم والوجه والنكات اللفظية، وكثير من هذه الحركات والمشاهد غليظ الحس لا يثير الكوميديا بقدر ما يثير الغثيان).
وعلى عادة الكثير من أعمال هذه الأيام، خاصة على منصة “نتفليكس”، هناك إفراط في تصوير مشاهد العنف والجنس، صحيح أن الأصل به الكثير من العنف والجنس، على طريقة أدب العصور الوسطى والأدب الشعبي، ولكن المعالجة والأسلوب اللذين اعتمدهما المسلسل لا يستطيع التقاط روح الفترة التاريخية التي يدور فيها أو روح الأدب الشعبي الذي تنتمي له The Decameron و”ألف ليلة وليلة”، وهو أدب مرتبط بالخيال لا التجسيد، ومناسب لذوق الناس في عصره.
وأخيراً لا يستطيع المسلسل، بكل شخصيات أبطاله الكثر، أن يجعلنا نتعاطف مع أياً منهم، ربما باستثناء شخصية الخادمة “ستراتيليا” التي تلعبها البريطانية إيرانية الأصل ليلى فارزاد، وليس هناك أسوأ من مسلسل يمتلئ بالشخصيات، لا يمكنك أن تحب أياً منهم!
وقبل أن أختم: إذا كنت تريد أن تعرف كيف يمكن لفنان سينمائي موهوب أن يعالج عملاً كلاسيكياً شعبياً مثل The Decameron، فإليك ثلاثية أفلام المخرج والمؤلف الإيطالي بيير باولو بازوليني التي صنعها في بداية سبعينيات القرن الماضي، والتي يطلق عليها ثلاثية “الحياة” وتضم أفلام The Decameron وThe Canterbury Tales و Arabian Nights.