أخبار عاجلة
The Zone Of Interest.. التاريخ لن يُنصف الوحوش

The Zone Of Interest.. التاريخ لن يُنصف الوحوش

متابعة بتجــرد: في نهاية فيلم The Zone Of Interest، وبينما يهبط المسؤول النازي “رودلف هوس” سلماً طويلاً كأنما يهبط على قبو التاريخ، تنتابه غصة عابرة، فيتوقف لوهلة ويشرد بعينيه، في لحظة تبصر دخيلة على عمى الضمير، الذي يرقد بين جنباته، فيري المتحف الذي أقيم بعد نصف قرن داخل معسكر الاعتقال النازي بأوشفيتز/بولندا والذي كان يديره لسنوات، ويقيم هو وأسرته في الفيلا الأنيقة المزدانة بالطبيعة، ورماد المحارق التي تبعث دخانها البشري ليل نهار.

اللقطات التي تبدو تسجيلية حية ودخيلة على روائية الفيلم وزمنه، تنتقل فيها الكاميرا بين ممرات المتحف حيث أفران الغاز وتلال الأحذية والأطراف الصناعة والعكاكيز والملابس الخاصة بالمعتقلين، الذي يقال أنهم شهدوا ساعاتهم الأخيرة في فوهة الجحيم النازية.

ثم يعود بنا السرد إلى “هوس” هابطاً الدرج نحو ظلمة الأسفل، وكأن ما رأه في لحظة التبصر لا يعنيه، وكأن الفيلم ينتقم منه بأن يجعله يرى بعينيه أن التاريخ سوف يمجد الضحايا ويخسف سير الجلاد، أصبحت المشنقة التي أعدم عليها هوس في أوشفيتز مزارا لكارهي النازية.

هذه اللقطات تحدد علاقة الفيلم بالحاضر بصورة قوية ومؤثرة، حتى ولو لم يقصدها صناع العمل، الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي هذا العام، فمن بين المنافسين الستة استطاع The Zone Of Interest تجاوزهم في تصويت أعضاء الاكاديمية، لأسباب قد تتأرجح ما بين كون الفيلم يتحدث عن الموضوع الأوربي والأميريكي المفضل (الهولوكوست)، خاصة في ظل حرب السابع من أكتوبر، وكأن المصوتين أرادوا أن يذكروا العالم بما يدعي اليهود أنهم تعرضوا له من (إبادة)، إبان الحرب العالمية وحكم النازي، وإما على النقيض تماماً؛ حيث يشعرنا الفيلم بمدى فداحة ما نعيشه من أهوال الإبادة الحقيقية، التي يتعرض لها شعب أعزل على يد أحفاد (الناجين من المحرقة).

يعيد الفيلم طرح السؤال الذي يراود كل من ترهقه مشاهد الحرب على غزة طوال الشهور الماضية، هل هؤلاء الذين يقدمون على حرق الأطفال وإذابة الأعضاء وإفناء اسر بأكملها هم بشر عاديون؟ يملكون قلوباً وضمائر وحد أدني من المشاعر الإنسانية؟.

هذا السؤال الذي طالما تاجر به اليهود واللوبيات الصهيونية، منذ منتصف الأربعينيات مع نهاية الحرب وحتى الآن، مستغلين دعاوى معسكرات الاعتقال،  وشهادات من يقال عنهم ناجين منها لاستدرار عطف العالم ومباركته، لما فعلوه بعد سنوات قليلة في فلسطين تحت دعاوى (التحرير) و(الوعد الإلهي).

يبدأ The Zone Of Interest بشاشة سوداء تستمر لدقائق، بينما شريط الصوت يقدم لحنا جنائزياً معزوفاً على حناجر كورال حزين، ثم يفتتح الفيلم مشهده الأول بلقطة للجنة، حيث عائلة “آريه” أنيقة وسعيدة تقضي يوماً صيفياً جميلاً على ضفاف نهر ساحر في بقعة سخية الجمال، ثم تدريجياً نتعرف على تفاصيلهم اليومية، وتفاعلهم الأسري الممتع والحميمي في منزلهم الرائع الذي تغمره الشمس، وتقوم على نظافته عدة فتيات نحيلات يتقنّ كل شيء، قبل أن ندرك أننا في منزل الضابط النازي الشهير رودلف هوس وأسرته، وأننا على مشارف معتقل أوشفتيز (سيئ السمعة)، الذي يديره “هوس” ببراعة ملفتة لنظر قادته من كبار النازيين.

يلعب السيناريو على سؤال العادية بشكل ضاغط، متخذاً من الميلودراما الاجتماعية قناعاً له، فهوس يبدو مثل أي موظف يتولى منصباً إدارياً مرموقاً، يمنحه امتيازات مادية ومعنوية معتبرة، ولولا بذلته الرمادية، لما أدركنا أنه يدير واحد من أكثر الأماكن التي يلطخ الدم سيرتها الملتبسة.

حتى أن اجتماعه مع مجموعة العمل التي ترتيب لتفاصيل المحارق التقنية، وكيفية تبريد أفران الإبادة، يبدو وكأنه اجتماع لمدير في شركة تجارية مع مرؤوسيه حول مشروع جديد، وليس للموافقة على تصميم غرف تصلح لقتل آلاف البشر يوميا بصورة عاجلة.

يبدو “هوس” عادياً مع أسرته، أب محب وحنون وراق، وزوج لطيف ومداعب، يمنح زوجته الحرية في تنسيق البيت وزراعة الحديقة على ذوقها، موفراً لها السماد العضوي من (رماد المحرقة)، لتغذية الأرض بالمواد الغنية المطلوبة لنمو الأشجار وفيرة الظل والثمار، بل أنه في مقابل إشرافه اليومي على الجحيم الاصطناعي – كما نرى في لقطة واحدة عندما نسمع أصوات عذابات مرعبة بينما يقف “هوس” محاطاً بدخان كثيف من المفترض أنه من أثر حرق المعتقلين أحياء- في مقابل هذا التفاني في إحراق البشر، نراه يصدر مذكرة طويلة حول أهمية مراعاة الجنود لزهور الليلك، كي لا يفسدوا شجيراتها التي من المفترض أنها تزين فيلا القائد، وإلا تعرضوا للعقاب، فالزهور هشة وتحتاج إلى فهم حقيقي في التعامل معها كي لا تضيع وتسقط في النهر ميتة.

إلى جانب فوزه بجائزة أفضل فيلم أجنبي فاز The Zone Of Interest بأوسكار أفضل تصميم صوت، وهو التصميم المعتمد على ما يمكن أن نطلق عليه رعب الصوت، يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون أن الأذن أعمق تخيلاً من العين، فحين ترى قطاراً فأنت ترى قطاراً ولكن صفير قاطرة واحدة يستدعي إلى الذهن محطات بأكملها.

هكذا يراهن السرد على أن يقدم شريط الصوت جرعة الخوف والتوتر والشعور بالأهوال، التي يلاقيها المعتقلين خلف أسوار جهنم النازي، تصلنا الأصوات عبر مسامع الأسرة التي تعيش لصق المعتقل، لكنها تتعامل معها على اعتبار أنها جزء من البيئة الصوتية للمكان، مثل خرير الماء وزقزقة العصافير وحفيف الشجر ورقصات العشب.

حتى عندما يقترب الصوت حد أن نوشك على أن نرى ما يحدث، فإن أحد أبناء “هوس” يلقي نظرة سريعة من نافذته على المطاردة التي يسمعها والتي تنتهي بأن يتم إغراق الهارب، ثم يعود للعب وكأن ما رآه مسألة عادية، مما يعني أنه حين يكر سوف يصبح هو الآخر موظفاً كأبيه، يمارس فعل الإبادة كمهنة تقليدية لا تستدعي القلق أو الشعور بالذنب، الغريب أن هذا الشعور ورثه الصهاينة فيما بعد من النازيين ،رغم بكائهم على ضحايا المحرقة المزعومين الذين شكلوا نقطة انطلاقهم نحو احتلال فلسطين.

تكمن قوة The Zone Of Interest في اللعب الصريح على المتناقضات الظاهرة والمخفية، ففي خلفية الكثير من المشاهد المتخمة بالخضرة والفرح العائلي، ثمة مداخن الأفران العالية التي تنفث الدخان الصاعد من المحارق، وحين تغيب الصورة يحضر الصوت بقلقه المستمر وأصدائه المخيفة، وبينما يقرأ “هوس” لبناته من كتب حكايات ما قبل النوم بصوته الأبوي الرخيم، نرى حكاية مصورة كأنها معروضة على شريط نيجاتيف، حول فتاة من سكان المنطقة تقوم بإخفاء ثمار التفاح في طين الخنادق التي يحفرها المعتقلين، أو خلف المعاول التي يزيحون بها رماد زملائهم، عقب إفراغ الأفران كل ليلة، ونفهم منها أنها تهرب لهم الطعام لأنهم حسب الرواية اليهودية لم يكونوا يتناولون سوى الحساء الخفيف والخضار الفاسد حتى يموتوا جوعاً.

يشتغل السرد على رعب الصوت من ناحية، وعلى التناقض بين الصوت الصورة من ناحية أخرى، وذلك بميزان انفعالي منضبط، ودون ابتذال للأسلوب أو مبالغة تحيل السياق إلى حالة من التعود أو النمطية، بل يظل محافظاً على ظهور الصوت في أوقات بعينها، كي يحيل سمع المتلقي إلى الحالة الجهنمية التي يعيشها جيران العائلة المنمقة الجميلة.

يقدم لنا الفيلم في النهاية خلاصة الأزمة الوجودية، التي صارت شخصية “هوس” تعيشها دون أن يدري، ففي الحفل الفخم الذي يتم فيه إعلانه أنه ترقى وانتقل إلى منطقة عمل جديدة، نراه لا يفكر سوى بسؤال واحد يشاطره مع زوجته في مكالمتهم الهاتفية: كيف يمكن قتل كل من في بهو الحفل بالغاز مع وجود هذا السقف العالي الذي يمنع إتمام العملية على أكمل وجه؟

لقد تحول رأس هوس إلى غرفة غاز ضخمة، ترغب في إبادة الجميع أيا كانت هويتهم، وسواء كانوا أعداء أو قادة، لقد مات الإنسان في داخله ولم يبق سوى موظف القتل النشيط والفعال، هذا الوحش الذي يمارس الإبادة بهمة واتقان، تماما مثل كل الوحوش السابقين والحاليين، والذين سوف يهبطون ذات يوم إلى قبو التاريخ مثلما هبط “هوس” في النهاية تاركا بقايا ضحاياه محفوظة خلف فتارين الذاكرة. 

إلى الأعلى