أخبار عاجلة
“مقسوم”.. هدايا الماضي في “وقفة الستات”

“مقسوم”.. هدايا الماضي في “وقفة الستات”

متابعة بتجــرد: من الممكن أن نجزم أن تعاون المؤلف هيثم دبور مع المخرجة كوثر يونس في فيلم “مقسوم”، هو انجذاب طبيعي بين مؤلف ومخرجة كلاهما مشغول بسؤال الماضي بشكل ملح وملموس، كما يسهل رصده في أعمالهما السابقة.

كوثر التي أنجزت عام 2015 فيلمها التسجيلي الطويل “هدية من الماضي”، عن رحلتها الغريبة مع أبيها مختار يونس، من أجل البحث عن حبيبة شبابه الإيطالية، في تجربة تحليل شخصي ونفسي ودرماتيكي مفعمة بالأسئلة، حول علاقة أشواك الماضي بتمزقات الحاضر من ناحية، ومسائلات جيل الأبناء لجيل الآباء في الحب والفن والحياة من ناحية أخرى.

ودبور الذي يبدو، رغم سنوات عمره الشاب مهموماً بأسئلة الخريف، وحمل الزمن والنظرة إلى الوراء حيث اللحظة التي يضع فيها الإنسان عمره في ميزان الوجود والتحقق، لكي يحسب قيم المكسب والخسارة بعد أن تلوح المحطات الأخيرة على مرمى الأيام. وهو ما سبق أن رأيناه في فيلمي “فوتوكوبي” 2017، و”وقفة رجالة” 2021.

بل ويمكن مد خط المشروع السينمائي على استقامته، لنرى تلك العلاقة المتجذرة -على مستوى الفئة العمرية وطبيعة البناء الدرامي ومراحل تطور الصراع- بين الديناصور “محمود” بطل “فوتوكوبي”، ومجموعة “الجراندات” في “وقفة رجالة”، وسيدات “مقسوم”، الذي يمكن اعتباره النسخة النسائية من الفيلم الذي قدم 3 نماذج ذكورية يخطون نحو الخريف الأخير، لكنهم يقررون في لحظة زيارة الموت لزوجة أحدهم أن يعملوا على إيقاف الزمن من أجل التقاط أنفاس السعادة، كي يحظوا بحاضر طيب يوازي جمال الماضي وذهبيته.

لمّ الشمل

تعتبر تيمة لمّ الشمل (Reunion) من التيمات ذات الصبغة الحميمية الدافئة، والتي تصلح عادة في الأفلام التي من بطولة أفراد لأسرة واحدة ممزقة، أو مجموعة مشتتة من الأصدقاء، أو الرفقاء القدامى، الذين طبعت الشراكات الروحية والشعورية الغابرة بصمتها الأثيرة على وجدانهم الجمعي.

هذه التيمة تمثل نصف جاذبية “مقسوم”، لما لها تمثله رحلة الوصول إلى ذروتها مساحة جيدة لبث التفاصيل، وإزكاء الصراعات رئيسية كانت أو جانبية، والاطمئنان أن المشاهد غالباً ما سوف يتلقى في النهاية جرعة إيجابية من الأحاسيس التي تغمره تجاه الحياة والناس.

3 سيدات يرتعشن داخلياً من إرهاصات شتاء قارص، يجدن أنفسهن في مهب فرصة مفاجئة لإعادة الشمل الذي يرفضنه ظاهرياً، بينما كل منهن تتوق لأن تتصل وتتواصل مع رفيقاتها السابقات، واللائي يبدأ بهن الفيلم في مقدمة بجودة شرائط الفيديو القديمة تعرض ماضيهن المشترك، حين شكّلن فريقاً غنائياً شهيراً توقف وانحلت أوصاله قبل 30 سنة تقريباً.

التيمة دافئة وحمالة أوجه للمرح والمغامرة، خصوصا مع مدبري لم الشمل وهما مخرج شاب ومساعدته الحيوية (عمرو وهبة وسارة عبد الرحمن)، يريدان أن يحصلا على حقوق استغلال واحدة من أغاني الفريق، التي تدور حولها أحداث فيلمهما- هنا أيضاً تقاطع واضح بين تيمة “لم الشمل” وتيمة “أفلام عن الأفلام”، وهي أيضاً من التيمات الجذابة.

 ولكن بسبب الأسرار القديمة أو ما يمكن اعتباره أسراراً، ثمة أزمة كبيرة في تحقيق حالة “لم الشمل” بين السيدات الثلاث، العزباء المثيرة السكيرة الباحثة عن رجل أخير تكمل معه ما تبقى من الرحلة (ليلى علوي)، والجدة التي تنضح براحة المحشي، وتلعن يوم زواجها برجل هدام للآمال والطموح (سماء إبراهيم)، و”الديفا” التي تريد الاحتفاظ بجمالها الزائل عبر عمليات التجميل، وممارسة وجود قمعي لابنها وابنتها بحجة رعاية شؤونهما (شيرين رضا).

إنها “وقفة ستات” مثالية لإعادة إنتاج نسخة نسائية من فيلم ناجح ومفعم بطاقات مرحة مثل “وقفة رجالة”، بل إنها في مقابل رحلة الرجال الثلاث في الفيلم الذكوري، نجد المخرج ومساعدته يقرران أن يجعلا لم الشمل عبر رحلة مماثلة، ولكن إلى أسوان – دون حاجة درامية أو مبرر منطقي لها سوى تطابق باهت بين الفيلمين- لتبدأ سلسلة من المواقف الصادمة والطريفة في ذات الوقت، والتي تجعل من لم الشمل عملية صعبة ومعطلة طوال الوقت بسبب التعنت أو افتعال المشاكل.

وصحيح أن محطات الرحلة تبدو ظاهرياً على قدر من الغرابة والعبث، إلا أنها تفتقد في مجملها إلى الروح النابضة بالكوميديا الحقيقية، حيث ثمة تعمد واضح لأن تكون اللقاءات محور صدام كاريكاتوري مفتعل، يعززه فقط تطرف صفات الشخصيات الثلاث، وكأنهن ثلاثة أطفال ولسن سيدات يملكن ماض مفعماً بالتجربة الفنية والإنسانية، ثم إنهن لسن في المرحلة العمرية الائي يتحول فيها الإنسان بحكم أرذل العمر إلى طفل مشاغب أو عنيد، وبالتالي فإن طبيعة المواقف التي يمكن أن تمثل صراعات منطقية ومقنعة، وتستدعي الضحك حتى في أكثر المواقف سوداوية، غير ناضجة بالقدر الكافي.

يمكن أن نرصد هذا في مشهد الشجار داخل الطائرة أثناء التوجه إلى أسوان، والذي جاء بسبب تافه جداً وهو خناقة (مين يقعد جنب الشباك) ثم تطور بصورة غير مفهومة أو مقنعة لمجرد توريط الشخصيات كلها في (خناقة بالوسادات Pillow Fight) على خلفية أغنية إديث بياف، في محاولة لخلق تناقض بين الصوت والصورة يضاف إلى كيمياء المشهد – بصورة مكررة شاهدنها كثيراً- لكن المحصلة لم ترق في النهاية لأن يصبح ماستر سين كوميدي يضج بالعبثية ويصنع الضحك.

المقسوم

يمكن أن نتوقف أيضا أمام عنوان الفيلم، وهو عنوان جذاب حمال أوجه، فمن ناحية هو إيقاع موسيقى محبب لأذن المستمع الشرقي وذو تقاسيم كان يمكن بقليل من الجهد ان يتم تطبيقها على إيقاع الدراما وحركة الشخصيات، ولكننا لم نلمس هذا بصورة واضحة، كذلك هو اسم الأغنية التي يرغب المخرج أن يحصل على حقوقها، وبالتالي يتصنع فكرة لم الشمل من أجل تسجيلها للفريق العائد من غبار الماضي، وهو أقرب تأويلات العنوان لمضمون القصة،.

ومن ناحية ثالثة هو المرادف الشعبوي لفكرة القدر في الوجدان الجمعي (أي ما كُتب للإنسان من رزق أو ابتلاء)، وهو ما لا نراه حاضراً بشكل عضوي في سياق الأحداث، فما حدث بين الشابات الثلاث في الماضي، وأدى إلى تفرق شملهن لم يكن من باب (القسمة والنصيب)، ولكنه صراع على رجل (بين امرأتين منهما) وتعالي وغرور من ثالثتهن، وهو ما نراه منذ المشاهد الأولى، حين نجد السكيرة تطلق على كلبها الأنثى اسم “مدحت” لنكتشف في المشهد التالي أنه اسم زوج الثانية؛، وبالتالي يصبح الإرهاص بالسر أو الألم التراجيدي متوقعاً.

ولولا أن ورد الحديث عن (المقسوم/ المكتوب) في الفيلم على لسان الشخصيات في ذروة صدامهن، لما وضعنا السيناريو أمام محاولة الربط بين تأويل العنوان والأحداث التي تعيشها الشخصيات أو توجهاتها الشعورية والنفسية.

ثمة أيضاً حالة من النمطية المكشوفة على مستوى الأداء، رغم التنوع الضخم في فريق التمثيل، والذي تمثل في عدد كبير من ضيوف الشرف، فكم من المرات شاهدنا شيرين رضا في هيئة “الديفا” الشرسة المتعالية الخطيرة، وما هي عدد الأدوار التي قدمتها سماء إبراهيم بكل طاقتها، ولكن في نفس المضمار الضيق الذي تنافس فيه عبلة كامل وقت توهجها، أما ليلى علوي فهي بريق معتق غير قابل للخفوت وهي أكثرهم قدرة على التلون بما منحه لها السيناريو من أبعاد درامية مختلفة وغير تقليدية.

يجتمع أيضاً تحت مظلة النمط المكرر كل من عمرو وهبة وسارة عبد الرحمن، اللذان يعودان في هذا الفيلم إلى بداياتهما كأن ما مرا به من تجارب لم يساعدهما على كسر النمط الذي بدا وكأنه تم استدعاؤهما من أجله.

“كوثر” و”دبور”

عقب تجربته الأخيرة مع أحمد حلمي في فيلم “واحد تاني” يمكن اعتبار “مقسوم” خطوة للأمام بالنسبة لهيثم دبور، على مستوى الدراما المفعمة بالمشاعر والتفاصيل، لكن بالمقارنة مع “وقفة رجالة” يمكن اعتباره خطوة للخلف، أو في أحسن تقدير (محلك سر).

أما كوثر يونس، فأفضل ما قدمته أنها حاولت أن تبحث لنفسها عن موطئ قدم في عالم الفيلم الروائي، بعد أن قدمت تجربة تسجيلية مفعمة بالتحرر والارتجال والمغامرة البصرية والدرامية على حد سواء، في العمل الأول كانت تسير وفق رحلة غامضة مجهولة الملامح والمحطات، لكن بخطى ثابتة ومرحة، ولكنها هنا تبدو مقيدة تحت سقف السيناريو، تريد أن تنفلت أو تتحرك، لكن العالم الروائي يخنقها، ويبدو أن علاقتها بالشخصيات الذكورية أفضل من علاقتها بالشخصيات النسائية -كان أبوها هو بطل فيلمها الأول-  وهو ما يمكن رصده في مشاهد هاني خليفة في دور الطيار حبيب السكيرة، أو حتى مشاهد سيد رجب القليلة في دور الزوج ذو الاحتواء الهدام، وكأن كوثر بحكم كونها أنثى لا تصدق شخصيات الفيلم النسائية، وتشعر أنهن على قدر من الافتعال والعناد الأنثوي المبالغ في تطرفه.

تبقى الإشارة إلى أن الفيلم، رغم كونه يلعب على بعض النوستالجيا بالنسبة للكثيرين مع توجه ذكي لشريحة الكبار من المشاهدين، إلا أنه في نفس الوقت يحتوي على معادلة الفيلم الأسري المناسب لموسم إجازة نصف العام، ذو الأجواء المرحة، والسياقات المبهجة نسبياً- حتى في اللحظات الداكنة شعورياً- وهو ما يجعله وجبة متخففة من ادعاء العمق، لكن افتقاده للأصالة في البناء والأسلوب ربما يسلبه البقاء في ذاكرة الجمهور، وهي خسارة يجب الالتفات إلى أسبابها من قبل صناعه.

إلى الأعلى