أخبار عاجلة
فيلم “رحلة 404”.. عن فنون الشك والغواية والثبات

فيلم “رحلة 404”.. عن فنون الشك والغواية والثبات

متابعة بتجــرد: هكذا تلخص بطلة الرحلة (غادة السعيد/منى زكي) أزمتها الدينية والوجودية، في اللحظة التي تحاول فيها التطهر من ذنب سرقة امرأة عجوز، فقرارها بالحج نابع من رغبتها في أن تتخلص من أدران (القاهرة/الدنيا) الملوثة، التي عاشتها لسنوات منذ أن فقدت عذريتها وقت أن كانت طالبة بالجامعة، ثم أصبحت فتاة هوى محترفة، هي في هذه اللحظة مولية وجهها شطر مكة؛ بكل دلالات المكان اسما ومجازاً ومكانة، من أجل الاغتسال وإسقاط الخطايا عن كاهل الروح والجسد.

اعتراض الرقابة المصرية على عنوان الفيلم الأصلي افقد الرحلة الإسقاط المباشر، لكن العنوان الجديد أكسبها تجريداً وجيهاً جعلها أكثر حميمية على مستوى التعميم، فلم تعد “الرحلة” بتعريف يخص صاحبتها فقط، بل صارت “رحلة” كأنها حالة عامة تنسحب على الجميع، على كل من يخوض صراعاً مماثلاً مع الشك في حكمة السماء، والغضب من مقاومة الغواية، والحيرة نتيجة فقدان الثبات في مواجهة عالم غير مفهوم وبلا منطق يسهل رصده أو إيجازه.

“غادة السعيد” نموذج إنساني وقع في الخطيئة في فترة مبكرة من حياته، خطيئة اجتماعية ودينية، هذا فيلم يحتاج إلى ترجمة ثقافية للمتلقي غير الشرقي الذي لن يفهم أن سر أزمة غادة هي فقدانها لعذريتها في الجامعة.

بالطبع هناك جانب شعوري يخص الدمار الذي لحق بنفسيتها في هذه السن المبكرة، خصوصا عندما تلتقي الرجل الوحيد الذي أحبته ووضعت ثقتها الجسدية فيه، فخذلها، وذهب لمن أغلقت نافذتها السرية في وجهه – كلا الرجلين اللذين أحبتهما “غادة” يدعا “طارق” وكأنهما وجهان لعملة واحدة، الأول تخلى عنها بعد أن امتص رحيقها البكر، والثاني هو المدمن الذي تزوجها في لحظة “أوديبية” انتقاما من أمه، ثم كان مصيره السجن وعذاب الضمير الأبدي.

ربما كان عنفوان الرحلة سبباً في أن نتمعن في أصل المشكلة، من الواضح أن “غادة” تمزقت روحياً عقب فشلها العاطفي والاجتماعي، لكن هل هذا مبرر لكي تحترف الدعارة!! وألم يكن من السهل أن ترتق جراح مشاعرها وجسدها، وتستقيم حياتها عقب ذلك، أم أن الاستسلام للغواية كان نوعا من معاقبة الذات؟.

ثم إن أزمة وجود أمها في مستشفى خاص تطلب الكثير من المال، جاء حلها بسيطاً على لسان أحد الأطباء، عندما صرح لهم بنقلها في أقرب وقت لكي تجري عملية أخرى! لم يكن ثمة إذن ما هو مُلح في مسألة بقاء الأم في المستشفى الغالي، سوى أن تظل “غادة” تحت ضغط الحاجة، وبالتالي تنهض برحلتها المأساوية من أجل جمع المال اللازم.

“العُهر”

ربما كان ثمة تأثر من قبل محمد رجاء، مؤلف الفيلم، برحلة عاهرة تائبة سبقت غادة السعيد بربع قرن تقريبا، ونقصد بها “سلوى” بطلة “كشف المستور” لوحيد حامد وعاطف الطيب، خصوصا مع استماتة غادة في الوصول إلى شخص يدعى طارق – زوجها السابق، المدمن الثري الذي يمكن أن يوفر لها التكاليف اللازمة، دون أن تضطر إلى الاستجابة لغواية (شهيرة/شيرين) رضا القوادة التي تساومها من أجل المال، أو سمسار الأراضي الذي يريد أن يستغلها في عملية نصب، هذه الشخصية تحديداً التي قدمها محمد علاء نموذج شيطاني في تلونه كما يصفه “طارق” فهو طبيب وعازف طبلة وسمسار، وكان سبباً في دخوله السجن في قضية تعاط.

في مقابل استماتة “سلوى شاهين” في الوصول إلى مدير وحدة (مجندات الفراش)، لكي تتخلص من ضغط مدير الوحدة الجديد، الذي يريد أن يعيدها للملعب بعد أن استقامت، نجد استماتة “غادة” في الوصول إلى “طارق” وكأنه هو الحل لكل مشاكلها، ولكن مع قدر من التشوش والارتباك، خصوصاً حين نجد أن “طارق” شخص محطم، منعزل، مسكون بأشباح الماضي وعذاباته، والتي من ضمنها غادة نفسها التي طلبت منه الطلاق وهو في السجن، وأجهضت طفلهما وحرمته منه، فأين هو المنطق في أن يصبح “طارق” هو الملاذ المادي لـ”غادة”؟ 

ربما لا يوجد منطق سوى أنانية الشخصية وتمحورها حول ذاتها، كما يصفها “طارق” وقت المواجهة بينهما، خصوصاً أن السيناريو يعيد إنتاج شخصية “طارق” في النهاية على اعتبار أنه الشخصية المهمة، التي تصر على أن تقضي ليلة مع “غادة” مقابل الشيك الذي تساومه عليها “شهيرة”.

يمكن هنا أن نتوقف أمام مسألة العُهر بمختلف تجلياته، ومن هنا كان الربط مع “سلوى شاهين”، في “كشف المستور” كان العُهر الذي تحدث عنه وحيد حامد هو العُهر المفهوم الذي يتجاوز فكرة عُهر الجسد إلى العهر الوطني والاجتماعي والسياسي، بل والإنساني – يمكن بسهولة استرجاع النماذج التي التقتها “سلوى” في رحلة البحث- وهو ما ليس ببعيد عن تجلي العُهر في رحلة “غادة السعيد”؛ السمسار يمارس نوعاً من العُهر في علاقته بـ”غادة”، وبالنصب على مشتر في قطعة أرض، وتجريد “غادة” من عمولتها بلعبة رخيصة في النهاية.

و”شهيرة” هي قوادة بالأساس فالربط واضح، و”طارق عبد الحليم” حبيب “غادة” الأول وسبب نكبتها ندرك من خلال الحوار أنه تزوج بزميلته (المحترمة) في الجامعة؛ لأن عينه بالأساس لا على شرفها، بل على بيزنس والدها الذي توفي وأصبح هو مديره والمتحكم فيه، وهو نوع جلي من العُهر الاجتماعي.

وزوجة الأب التي تستغل حاجة “غادة” للنقود – رغم عدم تشبعنا بالسبب- تمارس نوعاً من العهر، وهي تسهل لقريبها شراء محل أخت “غادة” بثمن زهيد استغلالاً للموقف، والأب نفسه الذي ندرك أنه يعلم طبيعة عمل ابنته، ولا يملك سوى ان يسبها تارة، ويستميلها تارة أخرى يمارس العُهر نفسه، بل إن أم “غادة” التي تعتصرها من أجل المال وتورطها في عملية جمع المال من أجلها، بعد أن صدمتها سيارة هي الوجه الآخر من شهيرة القوادة، الفارق بينهم هي أن إحداهن تداري والأخرى تعلن هذا بصورة فاضحة.

“الغواية”

لا تبدو مصيدة الغواية مفتوحة الفم على اتساعها، مرتبطة بحاجة “غادة” للمال فقط، في مشهد ربما هو أهم من مشاهد توسلها من أجل المال أثناء ما كانت جالسة في البار الذي تلتقي فيه ببائع الأرض المشبوهة، نجد “غادة” وهي تقفز بنظرات شهوانية مغلفة بالمدارة بين تفاصيل البار من رقص وخمور وأجساد ترقص على إيقاع الطبلة، التي يعزفها صديقها السابق وقواد بيعة الأرض الملوثة، وكأنها تفتقد هذا العالم الذي تشربته لوقت طويل حتى أدمنته وصار رغبتها في (العودة/عدم الثبات) هي غوايتها الحقيقة، ربما بما يوازي حاجته إلى المال إن لم يكن يزيد! خاصة أن نظرات الشهوة المكبوتة بدأت من قبل حادثة الأم، وقت أن اتصل بها هشام السمسار، وأسمعها جزء من تقاسيم الطبلة التي سجلها، والتي على ما يبدو أنها ذكرتها بلحظات المتعة التي تفتقدها حتى وهي في طريقها للحج.

“النور”

يعتمد تكنيك الفيلم في جانب كبير منه على عنصرين سرديين أساسيين هما الحوار والأداء التمثيلي، الحوار سلس وجارح وعنيف، ويشبه لسان شخصياته، وهو الوسيلة الأهم في التعرف على أبعادها النفسية وتاريخها وحجم الألم الذي بداخلها، والمعاناة التي تكابدها خصوصا “غادة”، والأداء التمثيلي هو خليط من توجيهات متقنة للمخرج هاني خليفة، وبراح إبداعي لغالبية الممثلين على رأسهم منى زكي التي صارت خبرتها أثقل من أن يتم تجاهلها أو التقليل من شأنها.

هذه التجربة تؤكد حجم الخسارة التي تكبدتها السينما المصرية خلال سنوات ما عرف بالسينما النظيفة في تطبيقها الرديء، ومنى زكي أكبر دليل على هذا، فالرحلة فيلم نظيف فنياً بالمصطلح الذي أطلقه نقاد الثمانينيات، أي يحتوي على نسب الإبداع والتوهج والاجتهاد والانشغال بالقضايا والتجويد الفني، دون أي ارتباك تسببه عناصر من خارج العملية الإبداعية، كالمفهوم الجامد للأخلاق ومحاكمة الخيال.

ربما لو منحت منى الفرصة من البداية لكان رصيدها من الأفلام (النظيفة فنياً) أكثر من رصيدها الحالي من الأفلام (النظيفة أخلاقياً) والباهتة إبداعياً.

وصحيح أن الصورة في مجملها لا تلعب دوراً كبيراً كأداة سرد في فيلم قائم كلية على الحوار، لكن لا يمكن تجاهل أن أداء الممثلين جزء من الصورة السينمائية، ومع نضجه وقوته، لا يسعنا سوى أن نضعه في ميزان الحسنات الإبداعية لهاني خليفة، نحن أمام توظيف شحيح للتكوينات المعبرة، أو الزوايا التي تحكي دون شرح حواري مستفيض، لكننا في نفس الوقت أمام توظيف لمبدأ أن الفيلم هو رواية حكاية بالنظرات، والنظرات في الفيلم تحكي وتبوح وتصيح من دون شك.

وبمناسبة الشك، فمن الغريب أن ينتهي فيلم كهذا، عبارة عن رحلة شك وارتباك وغواية وتشوش، على هذه اللقطة التي تسير فيها البطلة في ممر ضيق نحو النور في النهاية!

هذا فيلم عن القلق الإنساني مغلف بنزعة دينية وأخلاقية واضحة، وتأطير الحكاية بأن البطلة هادئة ومستريحة، وقد حلت أزمتها المادية، ونجت من فخاخ الغواية الروحية والجسدية، وتلقت أسفاً على بعض أخطاء الآخرين في حقها، وانتقمت من بعض معذبيها كل هذا لا يعني أن رحلة القلق قد انتهت!

ربما انتهت بالنسبة لها على المستوى الخاص، لكن سؤال القلق الأكبر والشك وعدم الثبات من المفترض أن ينتقل إلى المتفرج، عبر الشخصية الدرامية، وبالتالي فإن تأمين مشاعر البطلة وإراحتها يعني خسارة الصلة التي سوف تصيب عدوى القلق عن طريقها بال المشاهد! وهي تضحية غريبة بخاتمة قوية لرحلة عنيفة، وذلك لصالح بث طمأنينة زائفة وأشعار المتفرج أن التوبة ليست مستحيلة، وأن الغفران في الانتظار، وهو تغليب للنزعة الدينية الضيقة – رغم رحاباتها الروحية- في مقابل التوجه الوجودي الواسع رغم قتامته النسبية. 

ناقد فني.

إلى الأعلى