أخبار عالمية

الأمير هاري: نصف السلطات في بريطانيا “وصل إلى الحضيض”

متاعبة بتجــرد: ليس الأمير هاري، دوق ساسيكس، والابن الثاني لملك بريطانيا تشارلز الثالث بالجديد على إثارة الجدل في بلاده، فهو انسحب وزوجته الأمريكية من المناصب الرسمية المرتبطة بالسلالة الملكية وانتقلا للعيش على الجهة الأخرى من الأطلسي. ولاحقا قدما مقابلات تلفزيونية وشاركا في عمل وثائقي (على نتفليكس) تسببت دائما في نقاشات واسعة وأسالت حبرا كثيرا.

وكان آخر ألعابه الصاخبة كتاب مذكراته (الاحتياطي أو Spare)) الذي باع أكثر من مليون نسخة، وكشف فيه عن كثير من الأسرار العائلية المحرجة. الأمير المتمرد أقدم هذا الأسبوع على ما لم يحدث في تاريخ العائلة البريطانية الحاكمة منذ القرن التاسع عشر، وتوجه أمام عشرات كاميرات التلفزيون إلى مقر المحكمة حيث أدلى بشهادته كمدع. ولم يسبق لأحد من عائلة ويندسور في التاريخ المعاصر أن كان طرفا في إشكال قانوني مدني يتطلب الإدلاء بشهادة قانونية تحت القسم.

نصف السلطات “وصل إلى الحضيض”

ولم يكتف هاري المتمرد بالادعاء القانوني لدى محكمة مدنية لكسر التقاليد، بل استغل شهادته أمام القاضي لتمرير انتقاد لاذع للحكومة والإعلام في بلاده، وهو أمر غير مسبوق ولا متوقع من أفراد العائلة الحاكمة. ونقل عن الأمير قوله إنه “على المستوى القومي، يتم الحكم في الوقت الحالي على بلدنا عالميا من خلال استقراء حالة إعلامنا وحكومتنا – وأعتقد أن كليهما قد وصلا إلى الحضيض”.

ويتكون النظام السياسي في بريطانيا من ثلاث سلطات: تشريعية وتنفيذية (الحكومة) وقضائية إلى جانب الدور الرقابي الذي من المفترض أن تمارسه الصحافة لتنال مكانة السلطة الرابعة. وهكذا فإن نصف سلطات هذا البلد في أسوأ مكان ممكن وفق أحد أفراد العائلة الحاكمة.

الأمير أصاب كبد الحقيقة…

تقييم الأمير لوضع بلاده من زاوية السلطتين الثانية والرابعة يبدو دقيقا للغاية. بل إن رئيس الوزراء ريشي سوناك كان أثناء إدلاء الأمير بشهادته متوجها إلى الولايات المتحدة في مهمة صعبة لإقناع الحليف الأمريكي بأن يأخذ بريطانيا على محمل الجد بعد سلسلة من الاضطرابات السياسية المخجلة على قمة السلطة التنفيذية أسفرت عن تغيير صاحب منصب رئيس الوزراء ثلاث مرات خلال أقل من شهرين، وانحدار تقييم بريطانيا الائتماني إلى أقل من اليونان وإيطاليا – وهما الأسوأ في الاتحاد الأوروبي – هذا سوى سلسلة من الإضرابات العمالية المستمرة في قطاعات حيوية (الصحة والتعليم والنقل البري – وقريبا الجوي – وأيضا أجهزة الخدمة المدنية)، وتراكم للأزمات الاقتصادية واللوجستية التي جعلت المواطن البريطاني في أدنى مستوى دخل له منذ خمسين عاما، ناهيك من التردي الملحوظ – أقله مقارنة بدول الجوار الأوروبي – لمستوى الخدمات العامة والبنية التحتية.

وفي جعبة سوناك خلال رحلته الأمريكية قائمة تمنيات يريد من الأمريكيين تحقيقها وتشمل منح الشركات البريطانية استثناءات من إجراءات الحماية التي فرضتها الولايات المتحدة على الصناعات الخضراء، وإشراك بريطانيا في المشاورات بشأن تنظيم فورة الذكاء الاصطناعي، ودعم ترشيح وزير الدفاع البريطاني – بن والاس – لمنصب أمين عام حلف الناتو (شمال الأطلسي).

ومن الجلي أن الأمريكيين نسوا تماما زملاءهم البريطانيين في الأمور الثلاثة، فهم منحوا الأوروبيين بعض الاستثناءات بشأن الصناعات صديقة البيئة، وانخرطوا بالفعل في ترتيبات لتنظيم الذكاء الاصطناعي مع الاتحاد الأوروبي، ويبدو أنهم يدعمون وصول سيدة أوروبية – من الدنمارك أو أوروبا الشرقية – لتولي أمانة الناتو العامة.

وبالطبع فإن لخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي دورا في تراجع مكانة الإمبراطورية المتقاعدة، إذ كانت لندن طوال عقود بمثابة ممثل للولايات المتحدة في كواليس بروكسيل، لكن واشنطن اليوم تتواصل مباشرة مع الفرنسيين والألمان وتنسق المواقف معهما دون وسطاء.

فهل تبخرت تلك العلاقة التاريخية المميزة بين البلدين؟ في الواقع أن الأمريكيين يتبعون سياسات براغماتية محض في هذا الخصوص، وهم غير مضطرين في إطار سعيهم لتحقيق أجنداتهم إلى مراعاة مشاعر أحد مهما كانت العلاقة الرمزية مهمة. لقد تراجعت أهمية لندن بالنسبة للأمريكيين، وتقلصت مكانتها عالميا. وهذا حصل لسببين موضوعيين: صعود الأمم الكلاسيكية بعد غياب: الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها، وسقوط الحكومة والإعلام البريطانيين إلى الحضيض تماما وفق وصف الأمير بعد سلسلة من الخيارات الفاشلة والشخصيات عديمة الرؤية التي تولت إدارة البلاد في العقود الأخيرة، فيما اختار الإعلام الجماهيري البريطاني الاستقالة شبه الكلية من دوره الرقابي على السلطات الأخرى، وتحول – تلفزيونات وصحفا ومواقع إليكترونية – إلى صحافة تخدم أغراض النخبة المهيمنة على موارد البلاد، وتصفق للحروب الثقافية، أو تسعى إلى الربح السريع من خلال الإثارة الصفراء الرخيصة.

تقولون الحقيقة، والحقيقة مربحة …

الأمير، الذي رفع دعوى قضائية مع آخرين ضد مجموعة ميرور الصحافية، وجه اتهامات دقيقة حول مقالات نشرتها صحف المجموعة (توقف بعضها عن الصدور فيما بقيت الميرور اليومية) وتسببت في انتهاك خصوصيته بطرق غير مشروعة منذ كان تلميذا في المدرسة وعلى نحو تسبب له بأضرار نفسية بالغة بسبب ابتعاد الأصدقاء عنه ودخوله في “دوامة هبوط”، على حد تعبيره. وزعم الأمير – إلى جانب ثلاثة مدعين آخرين – أن المجموعة الإعلامية جمعت بشكل غير قانوني معلومات عنه على مدى ما يقرب من 20 عاما شملت اختراق الهواتف واستخدمت محققين خاصين لمطاردته والاستقصاء عن الأشخاص الذين يتعامل معهم خارج الأطر الرسمية. وتقدم ادعاؤه بـ لائحة من 33 مقالا نشرتها صحف المجموعة في الأعوام (1996 – 2009) قال إن معلوماتها استحصلت بطرق غير قانونية.

كما وصف قيام بيرس مورغان – رئيس تحرير دايلي ميرور ومجموعته من الصحافيين بإلقاء نظرة خاطفة على رسائل والدته – الأميرة ديانا – الخاصة والحساسة عبر اختراق صندوق بريدها الصوتي بأنه تسبب لها بكابوس قبل ثلاثة أشهر من حادثة مقتلها في باريس.

وقال إنه منذ ذلك الحين مصمم على محاسبة المسؤولين عن ذلك على سلوكهم “الخسيس وغير المبرر على الإطلاق»، معتبرا أن ثمة دماء على أصابع بعض الإعلاميين”.

وتنفي مجموعة ميرور هذه التهم، وتشكك بدوافع الأمير لرفع دعواه بعد مرور «كل هذا الوقت» ملمحة الى أنها محاولة لكسب كومة إضافية من الجنيهات الإسترلينية بعدما توقفت مخصصات القصر عنه وزوجته. ولا شك بأن ثمة دوافع مادية وراء قراره فتح هذه الصفحة أمام القضاء. بل إن كل ما فعله الأمير وزوجته إلى الآن كان المتاجرة بالحقيقة. فالحقيقة تحرر الناس لكنها في حالة أبناء السلالات الملكية مربحة أيضا.

ومع ذلك، فالحق يقال …

ربما ستعود القضية بالفعل على الأمير هاري بعدة ملايين من الجنيهات، لكن ذلك لا يفسد تقييمه الدقيق لفشل الإعلام البريطاني. لقد حدد بدقه موضع الألم وقال، في إطار شهادته، “تفشل الديمقراطية عندما تقصر التلفزيونات والصحف عن التدقيق في أعمال الحكومة ومحاسبتها، وبدلا من ذلك تختار النوم في فراش واحد معها”. وإذا كان من المفترض أن – السلطة الرابعة – تضمن ضبط المجتمع وتوازن السلطات الأخرى، فمن سيضبطها إذا كانت في يد المستفيدين من السياسات الحكومية. إنه بالفعل «أمر مقلق للغاية بالنسبة للمملكة المتحدة بأكملها» على حد تعبيره، ولكل مجتمع يدعي الصفة الديمقراطية أيضا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى