أخبار عاجلة
كليوباترا نتفليكس.. التاريخ في المصبغة!

كليوباترا نتفليكس.. التاريخ في المصبغة!

مقالات مختارة – بتجــرد: لون البشرة ليس بالتأكيد مشكلة فيلم “Queen Cleopatra” المعروض حالياً على نتفليكس.. بغض النظر عن الأصوات الهادرة التي انبرت بالهجوم على العمل لمجرد معرفة أن شخصية الملكة كليوباترا تؤديها ممثلة مختلطة العرق ببشرة سوداء.

لا أحد يعلم لون بشرة كليوباترا بالضبط، والمصادر التاريخية، التي كتبت بعد موتها بعدة عقود وقرون، ترجح أنها مُخلطة وأنها لم تكن خالصة البياض، كما يوحي أصحاب الحملة على المسلسل.

من ملكة بريطانيا إلى ملكة مصر

لون البشرة ليس هو المشكلة، ومعظم الأعمال السينمائية والتليفزيونية “التاريخية”، سواء عن كليوباترا أو غيرها، تستعين بممثلين وممثلات أصحاب بشرات وملامح غير دقيقة تاريخياً، تتوافق مع مواصفات الذكورة والأنوثة النموذجية وقت صناعة العمل.

والمعركة الدائرة حالياً بين من يغسلون التاريخ بالأبيض “Whitewashing”، ومن يردون بغسل التاريخ بالأسود  “Blackwashing” تطال كل شئ، من لون بشرة السيد المسيح إلى لون بشرة ملكة بريطانيا، كما شاهدنا في مسلسل “Bridegerton” الذي صنع منه موسمان ونشاهد حالياً في الجزء الثالث منه  الذي يحمل عنوان “Queen Charlotte: A Bridgerton Story”.

إذا كان لون بشرة ملوك بريطانيا، الذين يجسدون هيمنة الرجل الأبيض والاستعمار وتجارة الرقيق، يمكن أن يتغير إلى الأسود، فإن ظهور كليوباترا المصرية الإفريقية ببشرة سوداء ليس مشكلة في حد ذاته، لكن هناك ملاحظات أخرى في مسلسل نتفليكس أكثر إثارة للقلق.

مشكلة في “الدوكيودراما”

ينتمي “Queen Cleopatra” إلى نوع الـ”دوكيودراما”، الذي تلجأ إليه كثير من صناع الأفلام والبرامج الوثائقية بهدف تطعيم المادة التاريخية الجافة بمشاهد تمثيلية.

هذا النوع الذي انتشر كالنار في الهشيم مع نشأة القنوات الوثائقية المتخصصة، التي تسعى لإضافة الترفيه إلى التثقيف، أو لإضافة التثقيف إلى الترفيه، واستخدام قوالب ثابتة، تستبعد الاجتهاد الشخصي، وتكرس الإنتاج الجماعي التجميعي.

لكن هذا النوع يعاني من إشكالية مزمنة، وهي صعوبة اندماج النسيجين معا: النسيج التوثيقي الذي يتكون من مواد تاريخية (أوراق، آثار مادية ملموسة، صور فوتوغرافية أو مقاطع صور متحركة، وتحليلات مؤرخين، وشهادات معاصرين إذا توفر)..

النسيج الثاني، الدرامي، الذي يعتمد على الخيال والتمثيل، وسواء كان فقيراً، غير دقيقاً، أو باذخاً، ملفتاً، فإن المشاهد يشعر غالبا بأن النسيجين لا يتناغمان، وأن أحدهما يتفوق على الآخر، وأن طريقة استقباله للعمل متقطعة (ما بين تعليقات الأكاديميين والمتخصصين التي تخاطب العقل، ويفترض فيها الحياد والموضوعية، والمواقف التمثيلية التي تخاطب العواطف، ويفترض فيها السخونة والانفعالية).

ولذلك يحتاج هذا القالب الهجين إلى معالجة من نوع خاص، تحقق التوازن بين موضوعية التاريخ وعاطفية الدراما، بحيث يبقى للتوثيق العلمي احترامه وللترفيه الدرامي حدوده. لكن مسلسل نتفليكس أبعد ما يكون عن هذا التوازن.

الانحياز المضاد

يعاني “Queen Cleopatra” من الإفراط الدرامي على حساب التاريخ، ويزيد الطين بلة أن المصادر العلمية التي يستعين بها، كلهن نساء (ورجل واحد من أصل مصري اسمه اسلام عيسى)، يغلبن العاطفة، والانحياز للنساء، ولشخصية كليوباترا، على الحيادية العلمية المفترضة.

وليس معنى ذلك أن الانتقادات التي وجهها المؤرخون المتعصبون للرجال في الماضي كانت صحيحة، أو أن تبريرات مؤرخات نتفليكس خاطئة، ولكن في الحالتين هناك رد فعل عاطفي ناتج عن كون كليوباترا امرأة، وعن موقف المؤرخين، رجالاً ونساء، منها باعتبارها امرأة، وصمت قديماً بأشنع ما توصف به النساء، وتعد بمقاييس اليوم تجسيداً لكل ما تطمح إليه النساء.

لا تذكر المصادر العلمية التي تتحدث في المسلسل مصادر معلوماتها أو من أين استقت آرائها، ولكن يكتفون بسرد حواديت لا نعلم على وجه اليقين مصادرها أو مدى صحتها، خاصة حين ينتقلون من ذكر الحوادث إلى تفسير الدوافع والمشاعر!

المونتاج المخادع

هذا التحيز قد يكون سببه طبيعة المسلسل نفسه، فهو جزء من سلسلة بعنوان “African Queens” تهدف إلى سرد تاريخ جديد لإفريقيا، يبين أن نساء القارة السمراء كن في وقت من الأوقات أكثر استقلالية وقوة وتأثيراً من النساء البيضاوات في أوروبا وبقية العالم، وأنه كان بينهن ملكات وحاكمات ومحاربات عظيمات.

جميل.. هدف نبيل.. ولكن هل يكون ذلك على حساب التاريخ؟ وهل ينبغي أن نلوي عنق الزمن القديم وسياقه ووقائعه من أجل تحقيق هدف سياسي عصري، وما الفارق إذن بين من غسلوا التاريخ بالأبيض ومن يريدون غسله بالأسود؟

هذا الانحياز الذي يتحدث به الأكاديميون في “Queen Cleopatra” ربما يكون ناتجاً عن المونتاج والسيناريو وصناع العمل، وعلى رأسهم المنتجة والمعلقة الصوتية جادا بينكت سميث (زوجة ويل سميث، وواحدة من أعلى الأصوات ارتفاعاً في حركة “الأفروسنتريك”، ويعرف كل من شارك في عمل وثائقي كيف يمكن أن يقوم صناع العمل بتضخيم أو تقليل أو تغيير كلماته عن طريق المونتاج. ويساهم الشق الدرامي التمثيلي بدور هائل في تأكيد هذا الانحياز، وصبغ كلمات المؤرخين بوجهة نظر لا تاريخية!

ملكة من “مارفل”!

من المؤكد أن البطالمة الذين عاشوا في مصر لأكثر من قرنين قبل مولد كليوباترا قد اختلطوا بكل الألوان والأعراق الموجودة وقتها، مهما قيل عن ميلهم للحفاظ على عرقهم وزواجهم من بعضهم البعض.

ولكن حتى إذا افترضنا صحة وجهة النظر التاريخية بأن كليوباترا كانت مخلطة العرق، من أم إفريقية، وجد مخلط، وهي وجهة نظر تعتمد على بعض الحقائق التاريخية والأدبية (منها مثلا مسرحية “أنطونيو وكليوباترا”، حيث تصفها إحدى الشخصيات بأنها سمراء تميل للصفار، أو الرواية التاريخية “كليوباترا” لإميل لودفيج حيث يصف أبيها بأنه كان داكن السمرة وأختها بيرنيكي صفراء.

وحتى لو اقتنعنا بوجهة نظر صناع المسلسل بالاستعانة بالممثلة الإنجليزية المخلطة أديل جيمس، التي تبدو وكأنها إحدى بطلات أفلام “مارفل” أو واحدة من نساء “جيمس بوند”، أكثر مما تبدو كملكة فرعونية، لكن ما يصعب الاقتناع به هو غسل أسرة الملكة بالكامل باللون الأسود: من أجدادها وأخوتها وحتى أطفالها الأربعة!

الأسوأ أن صناع العمل يضيفون الجهل إلى الانحياز، فعندما يريدون إظهار بعض الشخصيات المصرية غير السوداء يأتون بوجوه عربية، ترتدي ملابس وأغطية رأس عربية، وكأنهم لم يشاهدوا أبدا لوحات البيزنطيين أو وجوه الفيوم.

صحيح أن كليوباترا كانت مصرية إفريقية أكثر منها أغريقية أوروبية، ومن الطريف أن المصادر القديمة المتوفرة عن كليوباترا تؤكد على مصريتها وسمرتها، لا من باب انصافها، ولكن بدافع تشويهها، فهي في رأيهم إمرأة لعوب ساحرة شريرة داكنة اللون خدعت أقوى رجال روما.

وعندما حاول صناع الأفلام الهوليوودية أن ينصفوها جعلوها أوروبية المظهر والشخصية، أما الذين يحاولون انصافها اليوم فيتجاهلون أن مصر الفرعونية والبطلمية تختلف ليس فقط عن أوروبا ولكن عن وسط وجنوب إفريقيا وعن مصر المملوكية!

ليس شراً كله!

مع ذلك، فليس المسلسل شراً كله، على العكس يتغنى العمل بمصر وكفاح الملكة المصرية في سبيل الحفاظ على استقلال بلدها ومكانتها، كما يبين حضارة مصر العظيمة وثراءها (بالغذاء والذهب والسلاح والعلوم)، وكيف كانت مطمعا لكل الغزاة، ومنهم الرومان الذين توافدوا عليها جيشا تلو الآخر.

كذلك يعرض المسلسل لأوضاع النساء في مصر القديمة، وكيف أنها كانت أرقى من أي مكان آخر في العالم، بحيث يمكن مقارنتها بأوضاع النساء في أوروبا وأمريكا اليوم!

يبين المسلسل أيضا كيف تقاطعت المصائر الشخصية مع الحوادث التاريخية، فلو أن يوليوس قيصر لم يقتل غدراً، ولو أن مارك أنطوني نجح في حملته على بارثيا (إيران الحالية)، لتغير وجه التاريخ تماما.

ولكن ما حدث هو أن مصرع الأول وهزائم الثاني أودت بكليوباترا السادسة ومهدت لاحتلالها على مدار القرون التالية.

أثار المسلسل ضجة بسبب نزعته “الأفروسنترية”، وغضب من غضب داخل وخارج مصر، وقيل من بين ما قيل أن هناك عملاً درامياً سيتم تجهيزه للرد على المسلسل.

في الحقيقة، ورغم كل الملاحظات على “Queen Cleopatra”، وبالنظر إلى حالة الإنتاج والكتابة الآن، لا أعتقد أن هذا العمل سيخرج إلى النور، ولو خرج سيكون شيئاً هزيلاً ومليئاً بالأخطاء والانحيازات.. ربما أكثر من مسلسل نتفليكس!

إلى الأعلى