متابعة بتجــرد: يرهف فيلم “All Quiet on the Western Front” (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) حس المُشاهد؛ مهما كانت لغته وثقافته، ويغمره بجرعات جمالية عابرة كلَّ حد، تطأ قلبه وتلامس روحه وكيانه. ومن مُفارقات الصنعة الفنية أن يجد المُشاهد هذه الجمالية في فيلم يتناول الحرب العالمية الأولى. فأنْ ينجُمَ الجمالُ من الأثقال والأحمال؛ فهذا ما لا يتبادر إلى الوعيالابتدائي للمُشاهد، حينما يقدم على مشاهدته فيلمًا من أفلام الحروب.
فيلم المخرج إدوارد بيرغر خلَّاب وفريد؛ فرغم التخمة الفنية التي حشدها المخرج في شريطه السينمائي، إلا أن الرهافة هي الطابع العام للعمل. وقد تستدعي هذه التخمة الفنية مناهج عديدة لمعالجتها؛ لكن الفيلم يضع المُشاهد والناقد في سياقات جمالية صرفة، بل أعتقد أن المنظور الجمالي هو المنظور الأمثل لتناول هذا العمل وفق ما أبدعه المبدع.
الفيلم الألماني سردية روائية اقتبسها إيان ستوكيل، وليزلي باترسون، والمخرج؛ من رواية ألمانية تحمل الاسم نفسه، لمؤلفها إريك ماريا ريمارك. الفيلم يروي آخر شهور في الحرب العالمية الأولى؛ وصولًا للهُدنة التي أنهت الحرب في الشهر الحادي عشر من عام 1918. والترشيح الذي ناله لأوسكار أفضل نص مقتبس مستحق؛ حيث استطاع الفيلم الإفادة من الرواية بالتحوير الجزئي لبعض الأحداث الفرعية، مع الإبقاء على الجسد العام للنص الروائي، وخريطة الشخصيات به.
جماليات عنوان All Quiet on the Western Front
قلت إن التناول الجماليّ هو أنجع طريق لاستكشاف ألمعية هذا العمل. وتبدو ذروة من ذرى الجمال في عنوانه “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”؛ فقد ركَّز الفيلم على الإفادة من عنوان الرواية في صناعة معنوية قوية، من خلال التضاد بين صخب الحرب، وويلات الصراع، وصرخات الجنود، ولوعات الآلام، وحرقة الفراق؛ وبين الهدوء المرتبط بحالة السلم، مع سكون الجنود وكفِّهم عن قتل بعضهم بعضًا، وتحويل الإنسان الكامل منهم إلى أشلاء مبعثرة. وقد حاول الفيلم مَرْكَزَةَ هذا المعنى من خلال مشهد الجندي “كات” وهو يستمع إلى الهدوء -والذي قد يصنع مفارقة-، بعدما سئِمَ سماع أصوات الاحتراب؛ ويا له من تعبير مؤثر حينما قال: اسمعْ كل شيء هادئ، وكأنني فقدت حاسة السمع!
وإذا تقدمنا خطوةً إلى الأمام في استكناه المعاني في الفيلم؛ وجدنا مفارقة تضاد الهدوء والضجيج، في الهدوء التام الذي يكتنف غرفة القائد العسكري المُؤيِّد للحرب، الداعم لها، الذي لا يرى لذاته قيمةً -بوصفه جنديًا- إلا مع وجود الحرب. حتى قد حرص المخرج في عُمق هدوء مشاهد هذا القائد أن يكون صوته وحده هو الضجيج. وكذا نشهد هذا الهدوء القاتل في قطارَيْ السياسيين الذين يتداولون أمر الحرب، في الوقت عينه الذي تصمّ فيه أسماع الجنود بأصوات القنابل والمدافع؛ حتى أن كلامهم وحده هو الذي يكسر هذا الهدوء المُهيمن. وأعتقد أن هذه المفارقة بين الهدوء والضجيج إحدى أعمق دلالات الفيلم الجمالية في تحرِّيها المعاني السامية.
تحويل الحرب إلى لوحات
وأبرز ما في جماليات الفيلم -كما أرى- هو تحويله الحرب العالمية الأولى إلى لوحات مرسومة أمام مُشاهده على الشاشة. فقد ارتدَّ المخرج بفن الصور المتحركة السينمائي خطوةً إلى فن الصور الثابتة الفوتوغرافية، مُتخلِّيًا عن حركيَّة الصورة في عشرات اللقطات والمشاهد لصالح فن التشكيل بتنويعاته، أو -على وجه الدقة- ليرسم بعين الكاميرا عشرات اللوحات الفنية. وهذا التمظهر أراه قد صاغ كل إبداع الفيلم ورؤية المخرج؛ بل هي النقلة الإضافية الحقيقية التي أودعها المخرج شريطه، ليُخرج النص الروائي -بحقّ- من فن القول المكتوب إلى فن الصورة المشهود. ليستعيض به ما لم يستطع نقله من النص الروائي من معانٍ مكتوبة لا تلائم سرديَّته الخاصة، أو من معنى كامن وراء المعنى المركزيّ في ثبات الطبيعة وجمالها، وتدمير الإنسان بحماقته لهذا الجمال.
تنوَّعت عملية تحويل الحرب إلى فن تشكيلي، إلى نوعين: ثابت ومتحرِّك أو شبه متحرك. النوع الثابت شائع في الفيلم منذ افتتاحيته العبقرية بصور ثابتة -هي ليست صورًا ثابتة، لكنها بطيئة حتى تظهر ثابتة-، منها الثعالب التي ترضع من أمها -وفيه تفسيرات عدة-. ومنها اللقطة الافتتاحية -وهي لقطة واسعة عُلوية- لأول مشهد متحرك؛ في هذه الجدارية البديعة التي صنعها وشكَّلها المخرج للجنود الصرعى على الأرض؛ وكأنهم قد ثُبِّتوا فيها تثبيتًا، بل كأنهم بذور في تلك الأرض من يد الشرّ الدائر عليها. ولا أشكُّ أن كثيرًا من المُشاهدين ظنوا أنها لوحة فعلًا، بل ذهلوا حينما رأوا الجدارية تتحرك، وتبدأ المعركة لنرى مَن بثَّ بذورًا من الجثث على أرض الأوطان.
ومن النوع الثابت أيضًا عشرات اللقطات التأسيسيَّة (اللقطة التأسيسية هي أول لقطة في المشهد، وتكون مهمتها في الغالب التعريف بمحل الأحداث، وموقع الشخصيات فيه) للمشاهد المطوَّلة، بالإضافة إلى عشرات غيرها من اللقطات الجمالية (اللقطة الجمالية هي لقطة قد لا تتعلق بالأحداث تعلقًا مباشرًا، لكنها تثري جمالية المشاهد والعمل كليةً) التي تتداخل مع المشاهد أو تنفصل عنها، وكذلك في اللقطات الجِسريَّة (لقطة تصل مشهدًا بآخر، فكأنها جسر بين المَشاهد). كل هذه اللقطات حوَّلها المخرج إلى لوحات؛ سواء باختياره العناصر الملائمة ليصورها، أو بالتدخُّل اللوني في اللقطات فيما بعد تصويرها.
أما النوع المتحرك أو شبه المتحرك فكان عن طريق تصميم موقع التصوير؛ خاصةً الخنادق وطرقاتها. فقد صوَّر المخرج منحوتات بديعة من مزيج التراب والطين وجثث الجنود الصرعى هنا وهناك؛ وكأنهم قد ألصقوا بالأرض إلصاقًا، وكأن المخرج نحتهم نحتًا في جمال خالص باهر للعين، يجمع بين بشاعة الحرب وقوة التعبير في الآن نفسه. وكذا لقطات الكثير من الشخصيات -ومنهم بطل الفيلم باول- إثر معركة أو قتال أو تفجير؛ حيث يظهرون وكأنهم جزء من الخندق، وكأنهم من ترابٍ قُدُّوا.
كما من نوع هذا العمل اللقطات التي تصور الشيء القادم وهو يكبر شيئًا فشيئًا؛ وأبرز هذه النوعية لقطة نور قطار السياسيين الذي بدأ طيفًا خابيًا من بعيدٍ بعيدٍ حتى استولى على كامل اللقطة، بما في ذلك من معانٍ غير خافية. وكذلك من هذه النوعية ما صوَّره المخرج داخل مكتب القائد العسكري؛ باستخدامه اللون الأصفر من الإضاءة ونار المدفأة، ومزيج آخر من الألوان الدافئة في مكان مغلق؛ فصارت لوحة رغم أنها داخلة في المشهد العاديّ. وكذا بعض اللقطات الحركية التي ركَّز عليها وأبطأ إمرارها على الشاشة، ومن ذلك لقطة للبطل “باول” بعد إخراجه من تحت أنقاض الخندق الذي انهار عليه وعلى الجنود زملائه، وهو ينظر إلى المحيط حوله بعدما حولت المعركة ما حوله إلى رُكام؛ وكأنه الإنسان في براءته ينظر إلى آثار ما أحدثه في عالَمه إثر الحرب.
اللقطات الواسعة هي السر
كما من أفضل جماليات الفيلم هذا الولع من المُخرج باللقطات الواسعة وباللقطات شديدة الاتساع. فقد أكثر المُخرج منها إكثارًا، لدرجة ملحوظة. وأرى أنه كان يقصد معنى من وراء هذا الاستخدام الموسَّع لتلك النوعية من اللقطات ومغزاها مع الجنود في البَريَّة؛ وهو إبراز ضآلة الإنسان، خاصةً الجنود. فاللقطات الواسعة وشديدة الاتساع تصور الشخصيات وكأنهم جزء صغير من الحدث؛ ولهذا اختار المخرج الإكثار منها في مشاهد الجنود؛ ليدلَّ على عُمق مأساتهم وضآلة موقفهم وقلة حيلتهم، في هذا الفضاء الواسع المترامي الذي رُموا فيه عمدًا من آخرين. ويؤكد وجهة نظري أنه لم يستخدم هذه النوعية من اللقطات مع الساسة أو القادة إلا في حيِّز الاعتياد.
الجماليات المفضية إلى المعاني
محاور الجماليات التي ذُكرت وغيرها الكثير، استخدمها المخرج ليدل على معانٍ عدة. أهمها قسوة الحرب وشدتها التي جسدتها غالب جماليات الفيلم. ومعنى المفارقة بين حال الجنود وحال الساسة والقادة في تلك الحرب؛ فشتان بين مَن يدفع الجنود إلى أتون الجحيم ومَن ينتظرهم أمام نار المدفأة، وهنا نستدعي استخدام المخرج للمونتاج المتوازي (نقل حدثين في مكانين أو زمانين في مشهد واحد بالتبادُل بين اللقطات) في فصل المعركة بين الجنود في المعركة والسياسيين في القطار. ومعنى الأطماع الشخصية والأمجاد الذاتية للقادة والسياسيين على حساب الجميع، وهنا نستدعي المشهد الرمزي حين تتماهى صورة الجنود وهم يحفرون المقابر الجماعية لإخوانهم، أثناء مرور عربة القائد العسكري والسياسي.
وكذلك معنى الاستغلال الدعائي أو دور الدعاية في الحرب، في مشهد تحميس المدرس للطلاب في المدرسة الثانوية ليتطوعوا في الحرب. ومعنى أن الظلم يولِّد الظلم، وأن ما تفعله الأجيال الحالية يُشكل أدوار الأجيال اللاحقة، وفي هذا نستدعي المشهد المؤلم الذي قتل فيه الطفلُ الفرنسي ابن المزارع الجنديَّ “كات”؛ لأنه والبطل “باول” كانا يسرقانِ من مزرعتهم بعضًا من البيض!
وبعد، فإن فيلم “All Quiet on the Western Front” الذي اكتسح الجوائز جميعها، ورُشِّح لتسع جوائز أوسكار فيلم يستحق المتابعة والتأمُّل، والفوز بجائزة أفضل فيلم، بل إذا فاز فهو حد الإنصاف لتلك التحفة الفنية.
يذكر ان الفيلم الذي انتجته “نتفليكس” حصد مساء الأحد الغلّة الكبرى من جوائز بافتا السينمائية البريطانية خلال الحفلة السادسة والسبعين لتوزيعها في لندن، إذ بلغ رصيده منها سبعاً، أبرزها اختياره أفضل فيلم، وفوز الألماني إدوارد برغر في فئة أفضل إخراج.