أخبار عاجلة
الطبقة المخملية تشهر السكاكين فوق “البصلة الزجاجية”

الطبقة المخملية تشهر السكاكين فوق “البصلة الزجاجية”

متابعة بتجــرد: يضيف فيلم “Glass Onion: A Knives Out Mystery” زهرةً أخرى لباقة الكوميديا الصحيحة؛ التي ليت صُنَّاعنا يتعلمون منها تقنيات خلق الكوميديا الصحيحة المستقيمة؛ ليصححوا مبدأهم الشعبي المحض أن الكوميديا تعني: أن أُهلك الجمهور من كثرة الضحك، على أي شيء، ورغم أي شيء. هذا المبدأ الذي يكتفي بعض صُنَّاع السينما عندنا في تطبيقه بعنصر الإهلاك فقط، فمن سماتهم القناعة بالقليل من المنظور الكامل؛ فيعيشون على مبدأ الزهَّاد برضاهم القليل من ملايين العُملات، وزهدهم في الكثير من العمل والجهد والتصور والتعرُّف على الثقافات الأخرى، والبحث في مجتمعهم.

الفيلم الذي أخرجه وألَّفه ريان جونسون أكمل نجاح الجزء الأول المُعنون “Knives Out”. اعتمد فيه الصانع الماهر على إبقاء عدد من الأمور مع تغيير عنصر واحد. غيَّر القصة والأشخاص المتعلقين بها في الجزء الأول، وأبقى على شخصية المحقق “بينوا بلون”، وحبكات المؤلفة الأكثر مبيعًا في التاريخ أغاثا كريستي، ورُوح الفكاهة، وطلاوة حكي القصة، وجو المرح الذي يحيط بالأحداث جميعها، وعنصر الفكرة أو القضية الذي عمَّقه وأوضحه في هذا الجزء. استطاع أن يحيك كل هذه العناصر؛ ليصنع أفضل فيلم ممتع ومُسلٍّ في العام كلّه.

النتيجة الأخيرة قد تبدو على غير حقيقتها سهلةً؛ وهذا ظنٌ غيرُ مُدرِك للصورة كاملةً. فأنْ تخرج لنا عملًا باهرًا صوريًا، مُسليًا، مُمتعًا، يحكي قصة فيها عنصر جذب وتشويق، مُحافظًا على التشويق حتى النهاية، قادرًا على التحكم في السرد كقطع الشطرنج لتكمل بناءً يُسمى فيلمًا؛ هو عمل يحتاج إلى كثير من الجهد والتفكير والموهبة من عنصرَيْ الأصل (التأليف والإخراج)، وعناصر التنفيذ المتعددة.

يدور الفيلم حول التقاء المحقق المشهور “بينوا بلون” (دانيال كريج) مع شخصيات مرموقة في المجتمع، على أرض جزيرة خاصة معزولة، يمتلكها الملياردير صاحب شركات التصنيع والتكنولوجيا “مايلز برون” (إدوارد نورتون). حيث أرسل الأخير صندوقًا به ألغاز، احتوى دعوة لمجموعة أصدقاء الملياردير لقضاء عطلة سنوية على جزيرته الخاصة؛ ليحلوا لغز جريمة قتل زائفة سيكون هو الضحية فيها. ويُفاجئ الجميع بحضور
“كاسندرا براند” (جانيل موناي) التي كانت شريكة الملياردير في أول نجاحاته، والتي أطاح بها دون أية مكاسب إثر اعتراضها على مشروع الوقود الهيدروجيني الذي بدأه. ثم يُفاجئ صاحب الدعوة بوجود المحقق الشهير الذي لم يرسل له صندوق دعوة. ثم تسير الأحداث في ليلة مُتخَمَة، تُسترجع فيها الذكريات، وتُكشف فيها الحقائق.

الفيلم يحافظ في بنائه الكُلي على عنصرين من عناصر “أجاثا كريستي”؛ هما: المحقق الشهير بلون، الذي يوازي المحقق الأشهر “بوارو” بطل روايات أجاثا. والأمر الآخر هو استيحاء الجو العام للعمل من أعمال الكاتبة؛ خاصة الفكرة الكلية من الاجتماع على جزيرة معزولة بدعوة من شخص، بين أفراد يشكُّ كل منهم في الآخر، ويحاول قتله. وقد ظهرت هذه الفكرة في أحد أنجح روايات أجاثا بعنوان (And Then There Were None) “ثُم لم ينجُ أحد” أو “جزيرة الموت”؛ والتي صارت من الأكثر مبيعًا في التاريخ.

استغلَّ الصانع فيلمه ليوجه سهام انتقاده للرأسمالية الجديدة الحادة التي يعيشها العالم الآن، ونال منها نيلًا حاكى حِدَّتَها نفسَها. واختار نموذجه السردي لينظر إلى الأحداث من منظور المحقق الذي يتوجس من هذه الطبقة الرأسمالية، والفتاة المُعلِّمة البسيطة التي أوقعتها الأحداث في بؤرة الضوء، وأرغمتها على اقتحام رحلة فاحشي الثراء؛ لتكشف خبايا الأحداث، وتكتشف قاتل أختها، وتفضح هذه الرأسمالية. وهذا الاختيار لمنظور رؤية المُشاهد في رواية الأحداث أبان عن اتخاذ الصانع ريان جونسون لوجهة نظر مُعادية، مُتمردة على هذه الطبقة وتأثيراتها العامة وحياتها الداخلية؛ رغم أنه استطاع إخراج هذا التمرد بطريقة مرحة كوميدية مُبهجة، وبتدرُّج حافظ على بناء شكل الفيلم مع عدم الاقتراب به إلى أشكال مسرحية أو مقالية -كما نرى في صناعتنا نحن عند نقدنا لشيء ضخم نافذ كهذا-. وهذا هو صلب نجاح هذا العمل.

كما اختار فكرة “البصلة الزجاجية”؛ التي شكَّلت رمزية هذه الطبقة الرأسمالية، وجوهرها. البصلة الزجاجية اسم الجزيرة التي تدور فيها الأحداث، وعلى هذه الجزيرة مبنى ضخم زجاجي يشبه تكوين ثمرة البصلة الحقيقية. واسم البصلة الزجاجية اتخذه الملياردير من اسم الحانة التي شهدت صعوده على أكتاف الآخرين. والرمزية في البصلة قِيلت على لسان المحقق في جملة محورية في الفيلم عن كونها مليئة بالقشور والطبقات، لكنها خاوية تافهة في مركزها، وسأعود إلى حديثه مرة أخرى. لكن الأهم أن البصلة الزجاجية التي بُنيت على الجزيرة، تحمل سمات صانعها وفكره عن الدنيا والآخرين؛ تعبيرٌ رمزي عن عالم الرأسمالية الذي ينتقده الفيلم.

ولننظر كيف صوَّر الصانع تلك الطبقة الرأسمالية من خلال استخدام الحوار الفردي من أحد الشخصيات. والحوار الفردي (المونولوج) هو أحد تقنيات الفيلم الهامة؛ حيث استخدمها الصانع ثلاث مرات، كلٌّ منها حوى فكرة مركزية، شيَّدتْ التصور الفكري للفيلم. وسأكتفي هنا باثنين.

الأولى في حوار الملياردير إلى المحقق، والجميع جالس؛ يشرح فيه نظرته عن فكرة “الزعزعة” أو الاضطراب. وفي الحقيقة لم يكن يشرح؛ إنما كان يبرر ما يفعله في الحياة، ويحاول شرعنة احتكاره كل شيء، وتغييره وجه العالم الحديث بتلك الشركات الهائلة التي ينشئها، وتلك الأفكار الغريبة الكماليَّة التي يصر عليها، والتي هي بعيدة كل البُعد عن النفع الحقيقي المنظور. منها مشروعه عن توليد الطاقة من الوقود الهيدروجيني الذي يصرح أنه يقصد به النفع العام (رغم خطورته الثابتة الواضحة)، في حين لم يصرح بأنه يغامر بضياع الجميع ليحتكر هو وحده هذا المصدر الطاقي، رغم خطره الداهم.

يقول مايلز عن فكرة “الزعزعة”: “سأخبرك بسرٍّ سيُغير نظرتك إلى العالَم. إن أردت إحداث تغيير جذري فابدأ بشيء صغير؛ اكسر قاعدةً أو فكرةً أو عُرفًا؛ شيئًا ملَّ الناس منه باعتياده. ساعتها سيتحمس الناس لأنك تحطم شيئًا، أرادوا بالفعل التخلص منه. تلك هي نقطة الانكسار؛ حيث يجب أن تنظر داخلك، وتسأل: هل أستطيع أن أكمل تحطيم القواعد حتى النهاية؟ أشياء أكبر وأعظم، لا يريد أحد أن تحطمها. ساعتها إنْ أكملتَ لن يكون الناس إلى جانبك، سيتهمونك بالجنون، وأنك تتنمَّر بهم، وسيطلبون منك التوقف؛ لأن أحدًا لا يريد تحطيم النظام كله. لكنَّ هذا هو جوهر الزعزعة، وهذا ما فعلناه”.

نقلتُ هذا الحوار رغم طوله؛ لأنه معبر أشد التعبير عمَّا نراه حولنا من تغييرات جذرية للعالم والقِيَم والأذواق والمصائر. أودع الصانع كامل الفكرة على لسان هذه الشخصية المحورية؛ لنراها وهي تبرر وتبيِّض وجهها بكلمات أصبحنا نسعمها كثيرًا من أشخاص ذوي نفوذ أقل نطاقًا من هذه الفئة الأعلى تحكُّمًا؛ فقد صارت هذه قِيَم العصر التي فُرضت عليه من قِبَل هذه الموجة الرأسمالية الأشد جنونًا من سابقاتها، والتي تؤذن بخراب كل شيء عمَّا قريب.

هذا الخطاب العاطفي من الملياردير الذي اعتاد تصديرَه الكثيرون؛ كان جريدة إدانة فاضحة في الوقت نفسه؛ لشخص تافه يريد أن يكون ضمن نظرية الأبطال عند “كارليل”، ويتقمص فكرة الرجل المُغيِّر لمصائر الآخرين ولوجه العالم (نراها كثيرًا في أباطرة العالم الرأسمالي الحديث). ذلك الرجل الذي يتمتع بموهبة رائعة ليست علمًا، وليست أدبًا، وليست فكرًاوليست فنًّا؛ إنها بحور من المليارات التي تُكسبه قلمَ الشاعِر، ونظَّارة العالِم، وكلمات المفكَّر!

والحوار الفردي الثاني هو للمحقق، حينما وقف يشرح للجميع نظريته عمَّن هو القاتل. أختار هنا بعض ما قال: “أفكر دائمًا في البصلة الزجاجية؛ إنه تركيب يبدو كثير الطبقات، غامضًا ومبهمًا. لكن في الواقع مركزه على مرأى الجميع .. لقد توقعت تعقيدًا وذكاءً وأحجية؛ لكن لا ينطبق أي من ذلك على ما يجري. فالحقيقة ليست متخفية وراء التعقيد؛ بل خلف وضوح صارخ”. وهنا يصف أفكار هؤلاء الأباطرة اللوذعيين، التي يُظهرونها ليعلموا الآخرين من حكمتهم الفريدة، وكم هي فارغة!

ثم راح لحادثة الفيلم، يستغلُّها في توضيح الفكرة السابقة. فذهب يُمثِّل بكلمات قالها الملياردير إما خاطئة في نفسها أو في استخدامها أو في نطقها، ثم صحح له أننا لا ننظر إلى البحر الأيوني، بل إلى بحر إيجه. ثم قال: “رصيفه البحري لا يطفو، وقوده السحري كارثة، مفهومه عن نظرية الزعزعة سطحي -على أفضل تقدير-. لم يُصمم صناديق الأحاجي، ولم يكتب لغز موته. كل شيء صار واضحًا. ككل الناس افترضتُ أن مايلز برون عبقري حاذق. لكن انظروا إلى قلب هذه البصلة الزجاجية؛ مايلز برون مجرد شخص أبله”.

“ما بين المُزعزعِين والأوغاد” .. هذا هو محتوى ما جاء به الفيلم، وما كشفت عنه شخصية “هيلين براندا” الأخت التوأم لكاسندرا، التي أتت للجزيرة تحل لغز مقتل أختها؛ واصفةً هذه المجموعة الثرية بالأوغاد، لا المزعزين -كما يصفون أنفسهم-. وقد كشفت بدورها بطانة هذه الطبقة؛ أيْ مجموعة المنتفعين الذين يشكلون المجتمع الرأسمالي حول كل إمبراطور -مثل مايلز في الفيلم-. هؤلاء الذين يمثلون الجسد الكامل لهذا المجتمع، وهؤلاء من يَظهرون للمجتمع ويُباشرونه أكثر من الرؤوس الكبرى. ممثلة وعارضة أزياء، رجل علم مشهور بعبقريته، شخص لا قيمة له يقدم محتوى فارغًا على منصات التواصل الاجتماعية، وسياسية ارتقت إلى منصب المُحافظ، وترنو بنظرها إلى مجلس الشيوخ.

خليط من مراكز المجتمع النافذة؛ بعضها ذو تأثير جاد، وبعضها ذو تأثير هزلي (رغم أنه يؤثر حقًا ويغير الواقع). لكنَّهم جميعًا كائنات طفيلية تقتاتُ على الملياردير، وهو ينتفع منهم تجاريًا وإعلاميًا وتسويقًا لأفكاره النيِّرة. يشكلون سويًا شبكة عنكبوتية لا فكاك للمجتمع منها إلا بالثورة عليها.

ويظهر الفيلم صفات هذه الطبقة؛ فغير المظهرية المعروفة، والتعالي المزيف؛ نجد أنها فئة تعرف سيدها وتنصاع له، وتحترم أنها مجرد خَدَم لا أكثر، قد تتظاهر على الآخرين، لكنها تقعد عند قدم سيدها في النهاية. يوضح الفيلم هذا بإظهار تغاضي هذه الفئة وعماها عن أخطاء سيدها في حقها أو في حق غيرها. مثلًا نجد المصارع يتغافل عن مغازلة الملياردير لحبيبته (في أول مشهد التقائهم)، وعارضة الأزياء تتغافل عن تجاهله لها رغبة في دماء جديدة، والسياسية والعالِم يتجاهلانِ -قدر ما استطاعا- مشاريع الملياردير الجنونية العبثية التي لا تخدم أحدًا.

ونراهم جميعًا في ذروة الفيلم يتجاهلون الحقيقة التي كشفتها هيلين عن أنه القاتل، وأنه سرق جهد أختها، وهي تطلب منهم الشهادة على إجرامه؛ ففضَّل كل منهم الهرب داخل جلده لواذًا من الحقيقة التي تحرقهم، في مشهد قد يؤذي المُشاهد من كمِّ الوضاعة المُمثَّلة. ومن الصفات أيضًا زيف الحياة، والفرح المُغتصب الذي صاروا لا يعانون في رسمه على وجوههم؛ رغم أن شفاههم تنقم، وقسماتهم تكره، وقلوبهم تحنق، على غير ما تظهر أفراح وجوههم. وهي من صفات مجتمع التفاهة والترفيه المعتادة.

ولعلَّ الحلَّ الذي وضعه الفيلم في تصرُّف هيلين يشكل طريقًا للانقلاب على حكم هؤلاء الأباطرة. فهي تتحرَّك لتحطم تماثيل الزجاج بعدما انفضَّ جميع الموجودين عنها، والملياردير يقف هادئًا دون حراك؛ معتقدًا أن ما تفعله هذه المسكينة -التي لا تملك شيئًا بعدما أحرق الدليل الوحيد على صدق أختها، وساعده الجميع في إخفاء قتله لها- مجرد تنفيس عن غضب مكتوم في صدر شخص ظلمه ببشاعة. ولم يعرف أنها تُقوِّض معبده الذي يحميه. شيئًا فشيئًا تتحرك لتحطم الزجاج، وشيئًا فشيئًا تجد صدى لهذا التحطيم الذي يجلو عن الصدر هموم التستُّر بالباطل ومجانبة الحقيقة؛ وتنتقل عدوى تحطيم هذا المعبد إلى الآخرين، إلى حد أن الملياردير نفسه اشترك فيها. ولم يكن يدري أنه ليس محض تحطيم؛ إنما تحضير لحدث أكبر سيحرق كامل بصلته الزجاجية. فهل كان يرسم أو يُلهم صانع الفيلم طريقًا للخلاص؟!

فيلم “Glass Onion: A Knives Out Mystery” فيلم جيد فنيًا، استطاع مخرجه صناعة البهجة من كل شيء: الإيقاع السريع، التمثيل المُبهج، الحوار الذكي، تحركات الكاميرا التي تسرع فجأةً في حركة جانبية وتتوقف فجأةً. وفي الفيلم بعض نقاط تعيبه لم يهتم الصانع بالتركيز عليها وصناعة تصور لها، مثل الفجوات الزمنية بين الأحداث التي شكَّلت الواقع الذي نراه، من الترتيب الزمني للقاء الأصدقاء قديمًا، إلى الشراكة، والمحاكمة وتوقيت المحاكمة؛ كذا توقيت حادثة القتل وإرسال الصندوق إلى كاسندرا وتسبيبه، وعدم إحراقه لدليل إدانته الوحيد والإبقاء عليه في مكتبه. ربما تكون هذه مُببرات أصابها الضعف؛ لكنها حشدت وسبَّبت في رؤية هذا العمل المُبهج المُمتع الذكيّ.

إلى الأعلى