متابعة بتجــرد: “الناس بتحب الأشرار”.. تأتي هذه النصيحة الدرامية على لسان شخصية “عيسى الوزان/باسم سمرة”، في الحلقة قبل الأخيرة من مسلسل “العتاولة”، في واحدة من مشاهد كسر الإيهام الكثيرة التي تشكل جزء من التسلية الشعبوية التي يقدمها المسلسل طوال حلقاته.
ما قاله الوزان ليست ببعيد عن المزاجية التي تحكم شرائح جمهور المسلسل، فشخصية “الوزان” الذي يعترف صراحة أنه شرير في مشهده مع “خضر/طارق لطفي”، صارت “ترند” هائل الانتشار، خاصة مع لزماته الطريفة متعددة النبرات، والتي يأتي على رأسها لزمته (ياللا بينا).
في المرتبة الثانية من الوزان يأتي “خضر فتحية” نفسه، الأخ الشرير الذي يرفض طوال الوقت أن يحيد عن مسار السرقة والبلطجة والخسة والنذالة، خاصة في علاقته بـ”ديحة” عشيقته، اللهم إلا في الحلقة الأخيرة، التي جاءت فيها توبته إرضاء لنفس المنطق الشعبوي في التطهر والتوبة و”المال الحلال”، “خضر” أيضاً، رغم كل دنسه الروحي والجسدي، وتحالفه الشيطاني مع أمه “سترة العترة/فريدة سيف النصر” ضد أخيه “نصار”، هو شخصية شريرة بمذاق معسول يوازي لسانه الحلو وثعبانيته الناعمة.
ثم تضم القائمة بعد ذلك المجرم الشكسبيري “السبتي”، صاحب اللازمة الفخمة (فليذهب إلى الجحيم)، ولا ننسى “عاطف/ مصطفى أبو سريع” الذي صارت اهزوجته الخارقة (المال الحلال أهو) شعار الموسم الرمضاني، لا ينازعه في شهرتها سوى (يالا بينا) لؤلؤة “الوزان”.
أشرار من دون قضية
ربما لا تشكل جاذبية الأشرار جزء من الارتباك المصاحب لتقييم تجربة مثل “العتاولة”، فجاذبية الأشرار عنصر حيوي في معادلة الدراما الشعبوية، بجانب عناصر مثل الحوار الحريف، والتركيبات اللغوية القائمة على المفارقة الطريفة، وغياب النظام الشرطي أو تحييده وتحجيمه في أقل المساحات، حتى يبدو أن عالم العتاولة لا يحكمه سوى قانون الذراع و(الفهلوة)، والدسائس والتصفيات الجسدية، التي لا تفرق بين شيخ عجوز مثل العم “خميس”، أو طفل هش مثل “مالك”، ناهينا عن الميلودراما الزاعقة التي تلعب فيها الأسرار العائلية، كاكتشاف أن “نصار/ أحمد السقا” ليس ابن “سترة” وأخو “خضر”، أو عقد الطفولة، كعقدة “خضر” من أبيه، أو فقدان الأبناء بالإجهاض القسري، أو القتل بدور رأس الحربة التي تهاجم قلوب المشاهدين، لدفعهم للتعاطف والإشفاق ومصمصة الشفاه.
الارتباك المصاحب لتقييم “العتاولة”، نابع أساساً من كونه عمل يحمل جينات درامية قوية، لكنها لم تتطور لتجربة ذات ثقل شعوري أو فكري أو نفسي، لا تشغله قضية، ولا يحكم وقته ولا إيقاعه منطق حقيقي، فالأحداث طوال 30 حلقة تدور حول محور صراع واحد تقليدي جداً، هو سرقة تمثال أثري من خزينة “الوزان” ومحاولاته أن يكتشف من صاحب اليد التي (علمت عليه)، ثم اكتشافه أنه “نصار”، ثم محاولة استعادته بشتى الطرق، دون أن يشغل المسلسل نفسه بقضية تهريب الآثار، على اعتبار أنها مجرد زناد لإشعال فتيل الصراع بين الوزان والعتاولة.
هذه السرقة، وما يصاحبها من مطاردات ومؤامرات وعمليات قتل وتفجير وتصفية، لا تتقاطع مع الحبكات الفرعية الخاصة بالشخصيات، سوى عبر تماس محدود وقسري، فلا علاقة بين سرقة التمثال وأزمة تبديل “فارس” ابن “نصار” و”عائشة”، والتي يروح ضحيتها “مالك” ابنهم البيولوجي، بل إن “نصار” في النصف الأول، ورغم تشبثه العنيف بـ”فارس” ورفضه فكرة تبدل الأطفال، إلا أنه حين يستسلم ويقبلها في النهاية شبه تنقطع علاقته النفسية والروحية التي أسس لها النص من البداية مع “فارس”، ويلتهي عنه بمغامراته مع “الوزان” ومحاولاته التوبة النصوح.
ولا علاقة بين سرقة التمثال وبين الخط الخاص بذهب “سترة العترة”، التي كانت تخبئه في مدفن زوجها، ثم انتقل إلى أختها وسرقة “السبتي” ليعطيه إلى “نصار”، كي يتبرع به في النهاية كجزء من الحالة التطهيرية، التي يجب أن تصبغ الشخصية الرئيسية، التي هي (أجدع من السقا) على حد صرخة “السبتي” في الحلقة الأخيرة.
ولا بين السرقة وبين عقد خضر المركبة، التي تنقسم ما بين افتقاده لحضن أبيه، وبين فقدانه لـ”فاطمة” حب عمره.
ولا مع حكاية “دينا رفارف”، لؤلؤة حارة العتاولة التي تهتز مع مشيتها الأفئدة والحواس.
الخلاصة أن كل خط من هذه الخطوط، سواء تصدر بعض حلقات أو تراجع على خلفية الأحداث، هو في النهاية خط منفرد لا يضمه مع البقية سوى التشظي والانفلات يميناً ويساراً، في محاولة لبث أكبر قدر من الافيهات والمغامرات والأزمات من دون عقد جامع ولا قوسي قضية تضم التفريعات كلها في باقة واحدة، وتصهرهم في أتون درامي ناضج.
إسكندرانية وإغريق
تبدو الصراعات المتشظية في “العتاولة” كأن كلاً منها يصلح لأن يكون خطاً منفصلاً في مسلسل مستقل، بوحدة فكرية ونفسية واضحة وقوية، لكنه حين ينضم إلى بقية الخطوط يبهت، ويخفت بريقه ويتحول إلى عود قش وسط حزمة جافة يسهل كسرها، مآسي إغريقية كالتي سبق وأشرنا إليها، الابن المفقود والأب المتخلي، والغواية الكامنة التي توقع رجالاً في شباكها اللدنة، ثم تنتزع قلوبهم أو أرواحهم، وحتى التحول الذي يصيب شخصية مثل “عائشة” في النهاية، ويدفعها إلى ارتكاب جريمة قتل عم خميس، يذكرنا بالتحول التي أصاب “ميدوزا” وحولها من امرأة جميلة إلى لعنة لكل من تقع عينها عليه.
هذه الروح الإغريقية تلبستها أصوات شجار وعراك إسكندراني شعبي حار ولاسع، فطغت عليها ولوثتها بالتشتت والهشاشة، حتى أن بعضها يختفي تماماً، ولا نعود نلمس له أثراً؛ كما سبق وأشرنا إلى علاقة “فارس” بـ”نصار” وعقدة “خضر” الأبوية، وحتى محاولة انتقام “عيسى” الساذجة من العتاولة، متمثلة في فضحه لأختهم “شادية” بأنها متزوجة من رجلين، والتي عاد النص وعصر ما تبقى منها مرة أخرى بشكل مقحم وغريب في الحلقة الأخيرة، عندما هاجم “عيسى” “شادية” مع مجموعة نساء لكي يستجوبها عن وفاة أخته “فاطمة”، وحقيقة أنها ماتت منتحرة ام مقتولة، ثم إصراره على أن يجهض “شادية” قسراً، وهروبه من العتاولة الذي يؤدي إلى مقتله قضاءً وقدراً، في حادثة على الطريق كي لا يلطخ يد العتاولة بالأحمر القاني، محافظاً على شرفهم الرمادي (نسرق آه، لكن الدم لا).
بل أن شخصية إغريقية مثل “سترة العترة”، بكل سلطانها وقسوتها، اللذان يذكراننا بـ”هيرا” ساكنة جبل الأولمب، ومصدر تعاسة نصف أبطال الملاحم الأسطورية، تختفي تماماً في الحلقة الأخيرة، بما فيها “الماستر سين” الخاص بكشف مؤامرة “نصار” على ذهب تحويشة العمر الخاصة بها، وهو المشهد الذي يقدم بشكل مسرحي تجتمع فيه نصف شخصيات المسلسل تقريبا بشكل ساذج ومدرسي، ولكن دون صاحبة الشأن ومحور المؤامرة كلها.
روقة وكسر الإيهام
قد لا تعني القضية الجامعة أو العمق شرائح الجمهور المستهدف للمسلسل، في النهاية هو عمل مرتبط بموسم متواضع درامياً، ضمن أعمال غالبيتها لن يعود الجمهور لمشاهدتها، ولن تصبح جزء من النوستالجيا الرمضانية، فالنصوص ذات الفصوص الدرامية الغالية شحيحة، والصدارة مرتبطة بالطعم الحريف أو الاذع للإفيهات أو جمل الحوار المطعمة بالجرأة ومداعبة السوشيال ميديا.
وكما تقاطعت حبكة الأطفال الذين تبادلوا في مهدهم “فارس” و”مالك”، بالحبكة الأساسية في مسلسل “بدون سابق إنذار” من بطولة آسر ياسين وإخراج هاني خليفة، نجد ثمة تقاطعات مع عنصر شعبوي متكرر في أكثر من عمل رمضاني هذا الموسم، وهو اللعب على نماذج شخصيات أو مواقف مترسخة لدى الجمهور، وقادمة من أعمال ذات ثقل شعوري في الذاكرة الجمعية، أقربهم بالطبع في “العتاولة” لقاء “نصار” و”حنة”، المستوحى من لقاء “ماهر” و”بطة” في فيلم “المشبوه”، أو علاقة “نصار” و”خضر” التي تتماس مع علاقة “ماهر “وأخيه الأكبر “سيد” من الفيلم نفسه.
ولكن على رأس هذه المداعبات الحارة لذاكرة الجمهور تتربع شخصية “ديحة/نهى عابدين”، في واحد من أفضل أدوارها، مع الأيقونة (روقة)، والتي جسدتها نورا في فيلم “العار” من كتابة محمود أبو زيد وإخراج علي عبد الخالق، بل ان الموسيقى في جرس الاسم “ديحة”، مطعماً برقص نهى عابدين الفسفوري، وتبتلها في علاقتها بخضر، يحيل الوعي واللاوعي إلى “روقة” بشكل مباشر ودون مواربة أو شك.
كما أن اللعب على كسر الإيهام بشكل مباشر، كما في المشهد الشهير بين “عيسى” و”خضر”، حول موعد الحلقة الأخيرة على mbc مصر، أو الجمل المتناثرة هنا وهناك على لسان الشخصيات، كأن يقول “خضر” في بداية اشتباكه مع رجال “عيسى” (بقى لي 8 سنين معملتش أكشن)، وحتى تلك العلاقة بين “نصار” و”حنة” (السقا وزينة)، تذكرنا بلقائهم في فيلم “الجزيرة”، كما العلاقة بين السقا وطارق لطفي، في كاستينج شاطر، مستوحى من “صعيدي في الجامعة الأميركية”، كل هذا لا يمكن اعتباره ضمن المنطق الشعبوي عنصراً سلبياً، بل هو جزء من الحالة الحريفة التي يقدمها المسلسل، بل ويأتي هنا موزع بشكل لافت بين الحلقات، ويحمل حس محاكاة ساخرة محسوب بذكاء.
تبقى الإشارة إلى أن “العتاولة” رغم كل العناصر التي يفتقدها، أو حتى الزائدة عن وزنه الدرامي هو عمل مسلي، استطاع أن يلف خيط جمهوره حول إصبعه الملون طوال 30 حلقة، في منافسة ليست سهلة مع أعمال نصف شهرية (15 حلقة)، سريعة الإيقاع، حادة الجاذبية، وذات عمق حقيقي، أو على الأقل بها من النضج ما يتيح لها أن تمتلك رصيداً من وقت المشاهدة المزدحم.
ويؤكد “العتاولة” على ارتفاع واضح في المستوى التراكمي لخبرات المخرج الشاب أحمد خالد موسى؛ خاصة في علاقته اللونية بالبيئات والأماكن، رغم كثرة اللقطات العلوية، التي شكلت محاولة حثيثة لإعادة تقديم الإسكندرية بشكل مغاير لما قدمت عليه عبر عقود من المسلسلات، التي قٌدمت في حيز المدينة المبطنة بسحر معتق.
كما لا يمكن إغفال حالة النشاط والوجاهة الفنية التي ظهر بها غالبية ممثلي الصف الثاني، وهو أيضاً ما يحسب للمخرج بشكل كبير، خاصة مع تشظي الخطوط الدرامية وانفلاتها في اتجاهات مختلفة، كان من الممكن أن تصيب الممثلون بشيء ليس بالهين من عدم التوازن في الأداء.