متابعة بتجــرد: منذ فيلمها الأول “زهرة الصبار”، والتجريب يشغل المخرجة المصرية هالة القوصي، كنظرة إلى الواقع لا تجد في غيرها ما يمكن أن يعبر عن كم العبث والسريالية التي يفرزها، وبالتالي فإن تجربتها الجديدة “شرق 12” – الذي عرض في تظاهرة أسبوعي المخرجين بالدورة ال77 لمهرجان كان- هي الصعود الطبيعي بأسلوبيتها إلى مستوى أكثر مغامرة وشطحاً من “زهرة الصبار”.
ففي مقابل ما كان يحتله (الواقع/العادي/التقليدي) بكل اضطرابه وشططه الاجتماعي والنفسي في الفيلم السابق، نجدها تفسح الوقت والدراما في التجربة الجديدة لتصور أكثر رعباً عن هذا الواقع، تصور لا موضع فيه للمدينة بصورتها المكانية الراسخة، ولا حضورها الجغرافي المعروف، ولا أثر فيه للزمن بمستواه الناقل لرتم الحياة، حتى أن اللقطات الأولى من الفيلم عقب التترات مباشرة تأتي لمجموعة ساعات متوقفة عند توقيتات مختلفة، لأننا في الفيلم خارج إطار الزمن التقليدي أو الحسبة السهلة لتحديد حقبة معينة، رغم ما يشوب الفيلم من حالة ديستوبيا صريحة، خصوصاً مع كم البقايا والكراكيب والخردة والعاديات التي يكتظ بها المكان، الذي تديره الأم “جلالة”، ويأتي إليه الناس كي يمارسوا نوع من المقايضة التراثية، التي توحي أننا في زمن ما قبل المال والاقتصاد الحديث.
مستعمرة شرق 12
هكذا يكتب على الشاشة في تعريف المكان الذي سوف تدور فيه الأحداث، لو كان هناك أحداث بالمعنى التقليدي- في واقع متشرب بالأبيض والأسود – وكأنه نيجاتيف للواقع، وليس الواقع نفسه- وعبر تقنية تصوير تعتمد الخام السينمائي الذي أضحى أداة تراثية نتيجة الاعتماد الكسول تقنياً على التصوير الرقمي، مما خلق صورة أكثر عمقاً وخشونة للأماكن الغريبة التي تتحرك فيها الشخصيات داخل الجغرافيا المبهمة.
أما اللون، فلا يزور هذا الواقع إلا في مخيلة الشخصيات فقط، وتحديداً مخيلة (عبدو جلالة/ عمر رزيق)، في تكريس لموهبته التي تفوح بالنضج والحضور والطزاجة، فالمستعمرة تقع في نطاق حكم سلطوي ديكتاتوري، يرتدي قناع من 3 وجوه، وجهان سافران؛ أولهما “شوقي بهلوان/ أحمد كمال) وهو نموذج للإعلام الموجه الذي يتلقى التعليمات القادمة من تليفون قديم بدون قرص، في دلالة أنه يستقبل فقط، ولا يحق له ان يرسل أي شيء إلا في اتجاه الجماهير التي يتم حشدها في صوان أقرب للمسارح الشعبية القديمة، من أجل أن يتم غسيل دماغها بصورة منتظمة، أما الوجه الثاني فهو (الضابط صاحب قبعة الكاوبوي/ أسامة أبو العطا) الذي يبدو أقرب لكلاب الحراسة، التي تؤمّن بقاء النظام السلطوي الذي يدفع الناس إلى أن تذهب إلى “جلالة” كي تستبدل الساعات/الأعمار بمواد استهلاكية ربما لا تفيدها، ولكنها تشتريها من أجل أن تشبع النهم الذي تولده حكايات “جلالة” الخيالية عن البحر الذي ليس له وجود في نطاق المستعمرة.
و”جلالة” نفسها هي الوجه الثالث للسلطة في المستعمرة، ولكنها الوجه الخفي، الوجه التخديري الذي يبدو منصفاً لخيال الناس وهمومهم، ومنحازاً لاحتياجاتهم البسيطة، في حين أنها جزء من منظومة التغييب الكبرى التي تمارس على أهل المستعمرة، ومن بينهم “عبده” ابنها نفسه، والذي يحمل البذرة الثورية التي سوف تطيح بالوجوه الثلاثة، وتعلن التمرد من أجل عبور الخيال إلى البحر الحقيقي كما في مشهد النهاية.
مجازات
ظاهرياً يبدو الفيلم في منطقة مشبعة بالتجريب والفانتازيا، خاصة على مستوى الزمان والمكان، فالزمان متوقف كما أشرنا – في أول ظهور لشوقي البلهوان يشتكي لمحدثه في التليفون، والذي يتكلم معه بصيغة الجمع تفخيماً -من أجل التأكيد على أنه تابع لمجموعة تدير شؤون المستعمرة- بأن الساعة خربت، في دلالة على أن الزمن ليس فقط متوقف، ولكنه متضرر أيضاً من وجود هؤلاء السلطويين على رأس الناس.
ولكن ظاهر الفيلم الفانتازي يعكس وبقوة واقعية شديدة في التعامل مع مختلف سياقات الحكاية المفككة، واقعية خشنة بمجازات واضحة، فالشباب في المستعمرة مثلا يتحدثون بلغة غريبة غير العامية التقليدية التي تتحدث بها الشخصيات الأكبر سناً – وهو ما يحيلنا إلى لغة الشباب الحالية التي يمكن تلمس ملامح كلماتها المدغمة في أغاني المهرجانات أو التراب- بينما العملة المعتمدة كأجر للخدمات والعمالة هي مكعبات السكر، والتي بالنظر إلى أن الفيلم هو مشروع يرجع إلى 8 سنوات سابقة على حد تصريح المخرجة يمكن اعتباره رؤية استشرافية، خاصة مع أزمة السكر والمواد الغذائية نتيجة الأزمة الاقتصادية العنيفة التي تعيشها مصر حالياً.
أما “شوقي البلهوان” أو “شكوة” – وهو اسم التدليل الذي يفضله ودلالاته أيضاً فاضحة- فهو خليط من عدة وجوه إعلامية معروفة، تمثل الأبواق الدعائية للسلطة، والذي يشرف بنفسه على عملية جمع التبرعات من الشعب المتهالك مادياً في صندوق كرتوني يرتديه رجل على رأسه، وعلى الكل إما أن يتبرع! أو يدفع رشوة إلى الجنود الواقفين على باب صوان الحشد الشعبي كي يسمحوا بالتسلل بعيداً عن فقرة التبرعات.
ونعود إلى “جلالة” الحكاءة مديرة مستودع العاديات، التي تتراص الساعات الصامتة على جدار واسع خلف عرشها المهيب، فهي أكثر المجازات قوة وعنفاً، وهي ما يمكن اعتبارها مكعب السكر الأهم في الفيلم، فـ”جلالة” بحكم مكانتها النخبوية المتمثلة في امتلاء مستودعها بالحكايات، حتى إننا يمكن أن نذهب إلى التصور بأن كل العاديات الموجودة في المستودع قد استدعتها عبر خيالها الفخم والمهيب وحكاياتها عن البحر.
الأرض أرض
والسما سما والهوا هوا
والجدع يحلم ببحر واسع
والحلم يدفنه الخوف
والخوف بهلوان جعان
ونعاود من البداية
ويحلم الجدع
والحلم بحر مينشفش
هكذا تكرس “جلالة” لما هو كائن وما هو آت في واقع المستعمرة، فالجدع ليس سوى “عبدو” – نلاحظ أن فعل العبادة مجرد، وليس متبوع بصفة إلهية- كما أن مهابة لفظ جلالة واضحة الإيحاء- و”عبدو” يحلم بالبحر مثله مثل الناس كلها –نراه بالفعل في أول ظهور له وهو يغسل وجهه في الأزرق، بينما يكسو اللون كامل المشهد، قبل أن يرده صوت أمه إلى الواقع الأبيض والأسود عندما تنبهه إلى عدم الإسراف في استعمال المياه – وهي مفارقة ساخرة بأن “جلالة” تحكي عن البحر، وتخشى على الماء! لأن مواد المستعمرة شحيحة نتيجة امتلاء إدراج السلطة بالسكر، كما نرى في ولع “شوقي البهلوان” و”الضابط الكاوبوي” بمكعبات السكر الوفيرة لديهما.
هذا الجدع يحلم بمغادرة المستعمرة من أجل أن يطارد حلمه بأن يصبح موسيقياً، فهو غير قانع بالأوركسترا البدائي الذي صنعه من الخردة التي تملأ المكان – كما أشرنا فالفيلم يحتوي على لمسة ديستوبية ناصعة التجلي- وتنضم إليه في الحلم كعادة هذا النوع من الحكايات (ننه أو مصاصة/ فايزة شامة) – العاهرة الشابة التي تضع قطعة حلوى المصاصة في فمها طول الوقت كلازمة شهوانية، والتي نراها تتعرض للانتهاك الجسدي اليومي على يد الكاوبوي وجنوده حتى أنها تحمل طفلاً لا تدري من هو أباه.
وبالطبع مثل الحكايات كلها التي تحمل حلما بالمغادرة، يتغذى على روح الشباب الثائر على مجتمع مهترئ ومتآكل وفاشي، فإن الثورة تحدث بالفعل في النهاية على يد “عبدو” و”مصاصة”، لكن الأهم من بلوغ فعل الثورة هو انكشاف وجه جديد من وجوه السلطة وهو الوجه الأخطر، لأنه الأقرب للناس والأكثر تضامناً معهم ومواساة لأرواحهم المنهكة، وهو وجه “جلالة” المثقف، الذي لا يرى في الإمكان أفضل مما هو كائن بالفعل، والذي ينشغل بالتغييب عن التغيير.
تقول جلالة لعبدو: الخيال دوا شافي
فيرد ثائراً: الخيال بيخدورنا بيه من (اللفة) لحد القبر.
إن ثورة “عبدو” تبدأ تحديداً من تمرده على الخيال التغييبي لـ”جلالة”، والذي يتجلى ملموساً في شكل بدائي ساذج أقرب لمسرح الأطفال، كما نرى في مشاهد استدعاء البحر بحركات السباحة (على الناشف) أو تمثل الموج بالملاءات البيضاء التي نرى من يحركها، تماما كما في المسرح المدرسي.
هنا يلتقي التجريب مع الرمز من أجل الكشف عن فصل جديد من فصول الديكتاتورية، وهو تواطئ المثقف وأصحاب الخيال على شعوبهم من أجل استمرار الأوضاع الضحلة بحجة أن الأمن يجب أن يستتب، والشعب يجب أن يبقى في حظيرة الدولة – في مشهد الثورة نرى جموع الشعب التي نجح “عبدو” في استدعائها عبر تزيف صوت “شوقي” بأن هناك كنز مدفون يدعوهم إلى البحث عنه، وهم يتدافعون ليمروا من أسوار شبكية كأنها أسوار مزارع البهائم أو حظائر الحيوانات.
الحلم بحر
عندما تدرك جلالة فداحة ما تفعله تحدث لها صدمة تُسكت فمها عن الحكي، والتي كانت تهجس دوماً بأن تمتلك تليفون بقرص ربما كي تبلغ رسالتها، أو تعلن احتجاجها، ولكن الصدمة تمنعها من ممارسة التغييب الذي يدفع الأطفال للسباحة بالملابس الداخلية على الأرض ظناً منهم أنهم يعومون، أو يجعل أمهم تشتري لهم زعانف بدلاً من الطعام أو الكتب؛ لأن الوعي صار مشبعاً بالاستهلاك بديلاً عن الاستخدام.
ومن سم الخياط الضيق للحلم ينفذ عبدو في النهاية إلى البحر الملون، مصطحباً معه أفراد كثيرون من ناس المستعمرة، والذين نراهم في مجموعات جميلة يتوزعون على شاطي البحر لأول مرة في النهاية، ينظرون إلى الأفق، ويمرحون في سعادة مستحقة، وقد شملهم اللون أخيراً، ولمس الماء خواصرهم ووجوههم، بعد أن كان مجرد سباحة في هواء جاف وملاءات بيضاء ساذجة تحاكي الموج.
لقد سعت القوصي عبر استنفار أكثر من أداة سردية كالموسيقى والرقص والمسرح والتشكيل، إلى دعم أفكارها عن الواقع بتجلياته القاسية والمربكة، محتمية من نمطية الحكاية بالمغامرة الشكلية، دون أن يخلو عصب القصة المكررة من موضوع جاد، والذي يمكن اعتباره هنا هو الكشف عن الوجه الثالث الخفي وراء السيطرة على الجماهير.
صحيح أن ملامح الموضوع تاهت أحياناً بين المسارب المفككة للحكي القافز بين عدة أشكال، لكنه عاد في النهاية ليتماسك، ويقدم محاكمة ثورية للخيال الذي يفقد صفته المقدسة حين يتحول إلى أداة للتغييب، بينما تنجح الثورة عليه في إعادة نعته كمنفذ نحو الحلم بالبحر والحرية.