أخبار عاجلة
“تاج”.. حين ترتدي الفانتازيا ثوب التاريخ

“تاج”.. حين ترتدي الفانتازيا ثوب التاريخ

متابعة بتجــرد: إلى أي مدى يجب أن يلتزم صناع الأفلام والمسلسلات التاريخية بالتاريخ؟

ما الذي يحق لصناع هذه الأعمال أن يفعلوه بالتاريخ، وما الذي ينبغي عليهم ألا يفعلوه؟

وحين يتلفع أحد الأعمال بشخصيات ووقائع تاريخية، فهل يجب أن نأخذ هذه الأعمال على محمل التاريخ؟ أم نتعامل معها كأعمال خيالية فقط؟

أسئلة كثيرة من هذا النوع لاحقت أفلاماً عالمية وعربية في الفترة الأخيرة، منها أفلام Oppenheimer و Napoleon و”كيرة والجن” ومسلسلات The Crown و”الحشاشين”، و”تاج”، والأخيرين يعرضان ضمن الموسم الرمضاني الحالي.

في بداية مسلسل “تاج” تنويه يظهر يومياً يؤكد أن صناع العمل قاموا باستلهام أحداث تاريخية، ولكنهم تصرفوا فيها إضافة وحذفاً وتعديلاً لكي يقدموا عملاً درامياً بالأساس.

لا بد أن كاتب العمل عمر أبو سعدة ومخرجه سامر البرقاوي، استشعرا أن المسلسل ربما يتعرض للانتقاد، بسبب “الاختلافات” بين عملهم والوقائع والتفاصيل التاريخية التي يستند إليها، ومن ثم أرادا قطع الطريق على هواة المقارنة بين الأعمال الفنية “الخيالية” وكتب التاريخ.. أو ربما أرادا تفسير قيامهما بإطلاق العنان لخيالهما، واستخدامهما للتاريخ كتكأة لصنع حكاية وطنية حماسية وملهمة.

أبو سعدة والبرقاوي فعلا الشيء نفسه العام الماضي مع مسلسل “الزند.. ذئب العاصي”، الذي كان أيضا معالجة درامية حرة لحياة بطل وطني تاريخي (عاش قبل بطل “تاج” بعقدين من الزمان) وتحول، مثله، بمرور الوقت إلى أسطورة شعبية. 

وصناع “الزند” و”تاج” لم يخترعوا هذه الطريقة، ولكنهم غزلوا، فحسب، على منوال الفنانين الشعبيين الذين دأبوا على تحويل بعض الوقائع والشخصيات التاريخية إلى “فانتازيا” خيالية.

هذه المعالجة “الشعبية” (أو “الشعبوية”) للتاريخ أثبتت فعالية ونجاحاً مذهلين لدى المجتمعات كلها على مر العصور.. غير أن مشاهد اليوم، الأكثر وعياً ونضجاً، ربما يحب أن يساءل هذه الأعمال عن مدى التزامها بالتاريخ، وربما يحب أن يتساءل أيضاً عن جدوى استخدام التاريخ، وهل يمكنه أن يؤدي إلى شيء أكثر من الإيحاء بالمصداقية والواقعية؟، وهل يمكن أن نطلق على ما يفعله أبو سعدة والبرقاوي ومعهما تيم حسن، الذي أدى دوري البطلين زند العاصي وتاج، بأنه “أسطرة للتاريخ”، أو تحويل التاريخ إلى حكايات شعبية؟! 

تصبح هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً في حالة “تاج”، لأنه يدور في خلفية تاريخية قريبة نسبياً: دمشق، نهاية ثلاثينيات وبداية أربعينيات القرن الماضي، أثناء الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، وكفاح الشعب السوري من أجل الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي الغاشم.

بطل المسلسل هو تاج الحمال (تيم حسن)، ملاكم انضم إلى حركة المقاومة المعروفة باسم “القمصان الحديدية” في 1936، وعقب محاولة فاشلة لاغتيال الكولونيل الفرنسي جول (جوزيف نصار) يتم اعتقاله، ثم يتهمه رفاقه لاحقاً بأنه الذي وشى بهم، تسوء علاقة تاج بزوجته نوران (فابيا يونان) بسبب إدمانه للخمر والقمار وإهماله لابنته ولها، ويتم طلاقهما، لتتزوج برجل الأعمال والخياط رياض بك (بسام كوسا)، الذي يدعي الوطنية وعمل الخير، ليتبين لاحقا أنه رأس الأفعى المسؤول عن المصائب كلها التي تجري لتاج والمقاومة.

لا أحد، سوى مجموعة قليلة جدا من الأصدقاء، يعرف أن تاج هو بطل المقاومة المعروف باسم “المقص”، الذي ارتكب العديد من الاغتيالات للجنود والضباط الفرنسيين، والذي يبحث عنه الفرنسيون والسلطات ورياض بك.

والمسلسل (مثل “الزند”) يدور حول لعبة القط والفأر التي تدور بين القوى الوطنية بقيادة تاج، وقوى الاستعمار والخونة بقيادة جول ورياض، بجانب عدد من القصص الفرعية للشخصيات على الناحيتين.. وبالطبع لا تحسم نتيجة هذه المطاردات التي لا تتوقف سوى مع نهاية الحلقات، لكن الفكرة كلها أن تاج الذي لاحقته تهمة التعاون مع العدو من قبل رفاقه وزوجته وأقاربه، يثبت للجميع أنه أكثر المقاومين شرفا ودهاء.

بشاربه الكث ولغته الجسدية والشفهية المميزة، يؤدي تيم حسن شخصية البطل مفتول العضلات بسهولة وإقناع، لكن بسام كوسا في دور رياض بك يؤدي شخصية الشرير الماكر ببراعة، كما يضيف لأدائه حساً تهكمياً، يجعله داخل، وخارج الشخصية، في الوقت نفسه، يضاف إلى ذلك اللحية التي تزيد ملامحه مكراً، وهو الدور الأكثر تركيباً وصعوبة في المسلسل.

من ناحية ثانية يؤدي جوزيف بو نصار شخصية الضابط الفرنسي بعصبية ونمطية، وهو ما ينطبق على معظم الشخصيات الأخرى المرسومة بلون وبعد واحد، والعلاقات بين الشخصيات بسيطة وأحادية أيضاً، ربما باستثناء كفاح خوص في دور الصحفي الوطني سليم، وشخصية الضابط لويس ابن الكولونيل جول، الذي يقع في حب حنان السورية، ابنة أخت تاج.

المشكلة ليست في وجود أبطال وأوغاد، ولكن في مباشرة الكتابة والأداء، فكأن الشخصيات كتبت صفاتها على وجوهها.

في أحد المشاهد، مثلاً، تقوم أخت تاج العجوز بقتل ضابط فرنسي شرس وعنيف بطعنة واحدة من مقص منزلي. ومع وصول الجنود الفرنسيين يقوم خطيب ابنتها بالادعاء بأنه الذي قتل الضابط ليسجن بدلاً من السيدة المسنة، المشهد قد يكون منطقياً، ولكن غير المنطقي هو النبرة التي تم تنفيذه بها على طريقة المسرح التعليمي.

على النقيض يقوم بسام كوسا (في شخصية رياض) بقتل رجل جاء يبيعه بعض المعلومات بدماء باردة، ولكنه يطلب من مساعده وضع بعض المال في جيب القتيل، مقابل المعلومات التي أتى بها، لأنه رجل يحب الحق! هذا النوع من الأداء الملتبس (والطبيعي) نادر في المسلسل.

يرسم المسلسل صورة لافتة لدمشق الأربعينيات، من خلال تفاصيل الحياة اليومية البصرية والسمعية، مثل الملابس والسيارات والأسلحة، وحتى بعض ملصقات الأفلام والأغاني المصرية من تلك الفترة.

ويسبق كل حلقة مقدمة بالأبيض والأسود، على طريقة العديد من المسلسلات في الفترة الأخيرة، ولكن هذه المقدمات غير مترابطة، فهي  أحياناً عبارة عن “فلاش باك” لمشهد حدث في الماضي، وأحياناً لمشهد يتوسط الحلقة التي نشاهدها تم تغيير ترتيبه، وأحياناً يكون مشهداً عادياً في بداية الحلقة، وأحياناً يتكون من بعض اللقطات الأرشيفية الوثائقية.

هذه اللقطات الوثائقية، مصحوبة ببعض الإشارات إلى وقائع تاريخية، مثل قيام الفرنسيين بضرب دمشق بالقنابل، أو ظهور شخصية الزعيم شكري القوتلي (بأداء باسل حيدر) في بعض الحلقات، كلها تحيلنا إلى أسئلة البداية:

هل “تاج” عمل تاريخي، أم قصة خيالية تتخذ من الخلفية التاريخية ستاراً؟

بالنظر إلى النزعة “الوطنية” الحماسية للمسلسل، فمن الواضح أن استخدام التاريخ له غرض “سياسي”. وهو أمر مشروع، ولكنه يثقل على الناحية الدرامية والفنية للعمل.

 وأبرز مثال على ذلك انتهاء الأحداث فجأة بالقبض على “تاج” ومحاكمته وحبسه لأعوام، ثم هروبه أثناء ضرب الفرنسيين لدمشق، ليواصل حربه ضد جول ورياض، وذلك حتى ينتهي من عمله تزامنا مع الاستقلال.

ونظرا لقلة الأحداث، يعتمد المسلسل على مشاهد مداهمات الفرنسيين للبيوت بحثاً عن المقاومين، ومشاهد تسلل المقاومة إلى ثكنات وبيوت المحتلين، وهي مشاهد لا تكاد تخلو منها حلقة، ولكنها تخلق مع الوقت إحساسا بالتكرار.

إلى الأعلى