أخبار عاجلة
المسلسل السعودي “خيوط المعازيب”.. دراما مغزولة بالحنين والذكريات

المسلسل السعودي “خيوط المعازيب”.. دراما مغزولة بالحنين والذكريات

متابعة بتجـــرد: العودة إلى الماضي، هو أحد الموضوعات الأثيرة للدراما السعودية والخليجية بشكل عام، وقد شهدت السنوات الماضية الكثير من الأعمال التليفزيونية والسينمائية التي تدور أحداثها في فترات ماضية، خاصة النصف الثاني من القرن العشرين. 

أحدث هذه الأعمال هو مسلسل “خيوط المعازيب” الذي بدأ بثه على منصة “شاهد” وقناة MBC1  بداية من شهر رمضان، وهو يتشابه مع، ويختلف عن، معظم الأعمال التي تدور في فترات تاريخية قديمة في عدة أشياء.

عصر البراءة 

من التشابهات أن هذه الأعمال تهتم برصد فترات التحول الهائلة التي شهدتها المملكة خلال القرن الماضي، منذ اكتشاف وجود البترول بغزارة تحت أراضيها، وصولاً إلى نهاية السبعينيات الدامية، وما أعقبها من عقود انعزال وتشدد، تركت تأثيرها الثقيل على المجتمع السعودي والعربي إلى اليوم.

ومن الاختلافات أن “خيوط المعازيب” يركز على رصد هذه التحولات داخل محافظة الأحساء، ذات الحضارة العميقة والتاريخ العريق، والتي تحولت بين ليلة وضحاها إلى أكبر بقعة بترول في العالم.

لكن “خيوط المعازيب” لا يهتم برصد هذه التحولات نفسها، بقدر ما يهتم برسم صورة بانورامية للحياة  في قرية صغيرة بالأحساء، تسمى المعازيب، في عصر البراءة قبل أن تهب رياح التغيير.

الكتابة أصل الأشياء

المسلسل المأخوذ عن قصة لحسن العبدي، وتأليف فريق عمل كبير تحت إشراف هناء العمير، يعود في الزمن إلى حقبة الستينيات، ليسجل ذكريات وحكايات وتفاصيل الحياة اليومية في القرية الفقيرة البسيطة، التي يعيش سكانها على صنع “البشوت” اليدوية، إحدى الحرف والنشاطات التي اشتهرت بها الأحساء، ذات التراث والتقاليد الموغلة في القدم. 

بعد 12 حلقة، يكاد يشعر المرء أنه سافر وعاش لبعض الوقت في “المعازيب”، وأنه يلتقى هذه الشخصيات ويفكر فيهم ويقلق عليهم، بالرغم من أنه يعرف، يقينا، أنهم مجرد شخصيات خيالية في مسلسل خيالي يدور في زمن لم يعد له وجود.

وراء هذه المصداقية جهد كبير في الكتابة، لا يعكس فحسب دراية بالمكان وطبيعته وعاداته وطقوس سكانه ولهجتهم، ولكن أيضاً جهد أكبر في تشكيل هذه الشخصيات الكثيرة التي يمتلئ بها العمل، كأنما كل شخصية منهم صيغت “يدوياً” بدأب واتقان هؤلاء الصبية وكبار الحرفيين الذين يصنعون “البشوت”، وكل “بشت” فيهم كأنما هو عالم وحده.

ومع أن الكتابة تتحرك بشكل أفقي، يستعرض حياة السكان اليومية وتفاصيلها الصغيرة، التي قد لا تكفي لصنع دراما مشوقة، إلا أن الكتابة تتحرك أيضا بشكل رأسي، إذ يوجد خط درامي موحد، تلتف حوله الأحداث والحكايات، وهو خط يتصاعد دوماً، دون أن يفلت أو يشرد من بين صناع العمل، وهو ما يحسب للمخرج الموهوب عبد العزيز الشلاحي، القادم من السينما، حيث صنع عدد من الأفلام المتميزة، منها “المسافة صفر” و”حد الطار”، كما قام بصنع مسلسل “ممنوع التجول” منذ 3 أعوام.

صورة نابضة بالحياة

يعرف الشلاحي أين يضع الكاميرا في الزاوية التي تبرز أداء الممثلين وتفاصيل المكان، كما يعرف متى يتركها ثابتة، ومتى يحركها عرضياً أو رأسياً، ليزيد من مساحة الرؤية، أو لينتقل إلى شخصية أو حدث آخر، والأهم من ذلك يعرف متى يقطع، وينتقل بسلاسة إلى اللقطة أو المشهد التالي، محافظاً على الايقاع المناسب معظم الوقت.

الشئ الوحيد الذي وجدت أن استخدامه غير مناسب هو الكاميرا المسيرة (الدرون)، التي ترتفع أحيانا لترينا المكان من مسافة بعيدة، وهي وجهة نظر لا تتناسب مع طبيعة المكان الريفي البسيط الذي لا يعلو فيه أي مبنى أكثر من طابقين، بجانب الحركة البارزة لهذه المسيّرة والتي يشعر فيها المشاهد بوجود عنصر دخيل على المكان، على عكس بقية زوايا وحركة الكاميرا الطبيعية وغير المقتحمة أو الظاهرة، والتي تصنع في مجملها صوراً نابضة بالحياة.

يعرف الشلاحي أيضا كيف يدير ممثليه، وأين يضع الموسيقى لتزيد من تأثير مشهد ما، وكيف يصنع “الميزانسين”، أو حركة الممثلين داخل اللقطة، وكيف يحرك المجاميع في المشاهد التي تصور حركة السوق والشوارع.

نمر في دور حرباء

رغم الكتابة والإخراج المتميزين، لكن ذلك كله لم يكن ليظهر ويؤثر دون فريق عمل الممثلين الرائعين الذين يحملون هذا المسلسل على أكتافهم حرفياً، وعلى رأس هؤلاء عبد المحسن النمر، يلعب النمر شخصية “أبو عيسى”، الثري الأرمل، صاحب الورشة الأكبر لصنع البشوت، وهو رجل شرير، شره، شهواني، لا يشبع من الاستيلاء على ممتلكات الغير، سواء كان محل منافس، أو أرض زراعية خصبة بالنخيل، أو نساء جيرانه، أقل جرائمه هي إساءة معاملة الصبية الذين يعملون لديه، والذي يتسبب تنمره بأحدهم إلى انتحار الصبي المسكين، في واحد من أفضل وأقوى أحداث هذا العمل (إلى الآن)، خاصة مع الطريقة التي يتم بها إخراج مشهد الانتحار، ثم مشهد استخراج الجثة من نبع الماء.

شخصية أبو عيسى هي الأكثر حضوراً وتحريكاً للدراما، ومع أنها كريهة ولا تطاق أحياناً، لكن الرهان يتمثل في قدرة عبد المحسن النمر على امتلاك مفاتيح الشخصية، وتقمصها وتطوير أداء بالغ الطبيعية وكوميدي في الوقت نفسه، بحيث لا يملك المشاهد سوى الابتسام أو الضحك في ذروة انزعاجه من سلوكيات الشخصية.  

إنه مثل الحرباء يتلون بالضعف أو القوة أو القسوة، حسب ما يتطلبه الموقف الذي يجد نفسه فيه، وعلى سبيل المثال مشهد تفاوضه مع منافسه (أبو موسى) ليبيع له “بشوت” ورشته، بعد أن قام بحرق ورشة الرجل في الليلة السابقة، وكأنه يقدم له خدمة ومعروفاً، أو المشهد الذي يستطيع فيه أن يفلت من فضيحة اكتشاف تردده على بيت إحدى نساء الحي، أو مشهد محاولة إقناعه لزوجته وخالة طفليه بتزويجه من امرأة أخرى.

تنويعات من الأداء

الإشادة بأداء عبد المحسن النمر لا تنفي وجود أبطال آخرين لا يقلون تميزاً في العمل، منهم إبراهيم الحساوي في دور جاسم، الرجل الذي تمسه، وتعصف به رياح التغيير، وريم أرحمة، الأنثى الحائرة بين قلبها واحتياجاتها المادية، وفيصل الدوخي، الطيب الذي تنقصه الشجاعة، بشخصياتهم التي تشهد تطوراً وتحولاً دائماً، ومنهم علي الشهابي بأداءه الكوميدي الذي يمثل “إستراحات” درامية محببة، وسمير الناصر في شخصية أبو موسى، المؤمن، الراضي في كل الأحوال، والذي يشكل رغم قلة مشاهده نقطة الإتزان الإنساني والأخلاقي، في عالم تسوده الأطماع والشهوات، كما يجب الإشادة بفريق الصبية والمراهقين الرائعين الذين يمثل معظمهم للمرة الأولى، وببقية الممثلين الذين لا يتسع المجال لذكرهم.

“خيوط المعازيب”، إلى الآن، واحد من أفضل أعمال الموسم، وإذا واصل على هذا المستوى، فسيكون بالتأكيد واحداً من كلاسيكيات الدراما الخليجية التي لا تُنسى بانتهاء الموسم.

إلى الأعلى