أخبار عاجلة
مارتِن ماكدونا.. من المسرح إلى السينما ورحلة التصدي لـ”عزلة البشر”

مارتِن ماكدونا.. من المسرح إلى السينما ورحلة التصدي لـ”عزلة البشر”

متابعة بتجــرد: من جديد تعود الأضواء لتُسلّط في إيطاليا على نصوص وشخصيات الكاتب والمخرج السينمائي، والمسرحي الإيرلندي مارتِن ماكدونا، الذي عوّدنا بتصديه المتواصل مع موضوع عزلة البشر. 

وتوفّرت هذه المناسبة عبر نصّه المسرحي The Lonesome West، الذي أنجزه عام 1997 كجزءٍ من ثلاثيّة أسماها “ثلاثيّة كونيمارا”، التي تضمّ، بالإضافة إلى هذا النص، كلّاً من “ملكة الجمال في لينان” و”جمجمة في كونيمارا“، وتصوّر المسرحيات الثلاث أحداثاً قاتلة تقع في بلدة لينان بغرب إيرلندا.

ومنذ كتابتها وحتى اليوم عُرضت هذه المسرحيّة على مسارح عديدة في العالم، وتواجهت معها في إيطاليا في هذه المرّة فرقة La Macchina del suono بإخراج روبيرتو ساليمي.

يأتي هذا العرض بعد أقل من 6 شهور من فوز ماكدونا بجائزة أفضل سيناريو في الدورة الـ79 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي عن فيلم The Banshees of Inisherin (لعنات جزيرة إينيشّيرين) من كتابته وإخراجه، وفوز بطل الفيلم كولّين فارّيل بكأس “فولبي” كأفضل ممثل في ذات المهرجان، وترشّحه لأوسكار أفضل أداء رجالي إلى جانب تُرشّح زميليه بريندان جليسون، وبيرّي كوينجهام لأوسكار أفضل ممثل مساند، وترشّح الممثلة الإيرلنديّة كيري كوندون لأوسكار أفضل ممثلة ثانوية لهذا العام، ناهيك عن فوز فيلمه Three Billboards Outside Ebbing, Missouri (3 ملصقات ضخمة خارج إيبّنج ميسّوري) في عام 2017 بجائزتي أوسكار أفضل ممثلة (فرانسيس ماك دووماند)، وأفضل ممثل مساند (سام روكويل). 

حين تُفتح الستار ثمةَ صليبٌ خشبي مُدمّى ينتصف عمق الخشبة، ويُلقي بضوئه الأحمر القاني على الأرضية كالدم المُراق، مشيراً إلى خطيئة، أو خطايا كبيرة اقتُرفت، وثمةَ فوق الخشبة أثاثٌ، كراسٍ وثياب مُكدّسة باضطراب كما لو أشياءُ منزلٍ غادره ساكنوه أو حلّوا فيه للتوّ.

وعلى الطرف الأيمن من المسرح ثمة دولابٌ خشبي واطيء تعتمره صورةٌ مؤطّرة، نفترضها عائليّةً، وإلى جانبها صَفٌّ طويلٌ من تماثيل بلاستيكيّة لمريم العذراء، سنكتشف في ما بعد أنّها تعود لفالين، أصغر الشقيقين اللذين يسكنان ذلك البيت، أما الآخر، فهو كوليمان.

فالين مولعٌ بتجميع تلك التماثيل، وهو ذات الولع الذي يدفع كوليمان إلى مقتها، ولا يتردّد عن تحطيمها في كلّ مرّةٍ تتاح له الفرصة، أو، كما يفعل مرّةً، حين يقوم بتذويبها في الفرن الجديد الذي اشتراه فالين، ويريده لنفسه لوحده، كما يريد بسط هيمنته على كلّ شيء في ذلك المنزل، الذي استحوذ عليه بالكامل بعد أن تنازل له كوليمان عن حصّته في ميراث الأب، الذي نكتشف أنه مات مقتولاً برصاصة أطلقها كوليمان، ما أتاح لفالين ابتزازه ومقايضته عن حصته في نصف الميراث، بالصمت عن الجريمة التي اقترفها أمام ناظريه، وإدلائه بشهادة زور بأن الحادث وقع دون عمد.

وكما سنرى لاحقاً من تسلسل الأحداث، فنحن إزاء شقيقين متخاصمين يتعاركان على أيّ شيء، وتميّزت آصرتهما منذ الطفولة بالصراع والحسد والمناكفات، والمؤامرات والمقالب المتبادلة، كما وسنشهد سِفْرَ كل ذلك في مشهدٍ بديع بُنيَ على المكاشفة المتبادلة، وفتح سجلات الماضي المشحون بالمقالب والمؤامرات البريئة والخطيرة أيضاً.

سنكتشف أيضاً بأنّ جريمتي قتل أخريين وقعتا في القرية إضافة إلى مقتل والد الشقيقين، وثمة أيضاً انتحار شابٍ أقصاه أهل القرية، فسار نحو النهر وغطس في مياهه دون أيّ مقاومة، ودون أن يهرع أحدٌ لإنقاذه ظنّاً منهم بأنه يمزح وسيخرج من لُجّة النهر.

انتحارُ ذلك الشاب يدفع راهب القرية، الأب ويلش إلى الشعور بالذنب لأنه عجز عن عن الحيلولة دونه، شعور الراهب بالذنب والخُذلان يتفاقم فيحاول إطفاء لهيبهما باحتساء كمّيات مهولة من الخمر، وإلى الإفصاح، ليس فقط عن فشله في غسل خطايا روّاد كنيسته، بل أيضاً عن إدمانه على الخمر منذ لحظة وصوله إلى هذه القرية، وسيقوده ذلك الفشل في النهاية إلى معايشة عملية الانتحار الثانية، لا بل سيكون هو نفسه بطلها.

وثمةَ إلى جانب هذه الشخصيات الثلاث،  شخصيةٌ رابعة، وهي مراهقةٌ طائشة تبيع الخمر الذي تُصنّعه أمّها منزليّاً، إلاّ أن مارتِن ماكدونا يمنح هذه الفتاة الموقع الأهم في الحكاية المسرودة على الخشبة، ليس فقط لجمالها، وحيويّتها فحسب، بل أيضاً لضميرها المُتّقد وعفّتها، إذْ تتحوّل في لحظةٍ ما إلى الأُذن الصاغية المُنصتة التي تُسجّل اعتراف الراهب ويلش بخطيئة الفشل، والخيبة في أداء مهمّته في إصلاح الأنفس ومنع إقدام ذلك الشاب على الانتحار، والعجز عن قيادة الشقيقين كوليمان وفالين إلى التوافق الأخوي في ما بينهما وطلب التوبة الإلهيّة والغفران.

وتُصبح تلك الفتاة أيضاً، قبل أن تغيب عن المشهد بشكلٍ نهائي، بمثابة المرآة العاكسة التي تُتيح للشقيقين التحديق في قبح وبشاعة سلوكهما، وقد ضمَّنَ مارتِن ماكدونا لهذه الشخصية، لسلوكها ولدورها في الأحداث، شبهاً كبيراً بشخصية شيوبهان سويلي Siobhán Súille، الأخت في فيلمه الأخير Bandhees of Inisherin (لعنات جزيرة إينيشّيرين)، وهو الدور الذي ترشّحت به الممثلة الإيرلنديّة كيري كوندون لأوسكار أفضل ممثلة ثانوية لهذا العام.

هذا هو التكوين الذي يقدّمه المخرج الأوسكاري مارتِن ماكدونا إلى العالم في مسرحيّة The Lonesome West، ويروي فيها حكاية 4 شخصيات منغلقة في عزلتها الوجودية، وهي شخصيات أرواح تبدو أنّها بلغت نهاية حياةٍ انقضت في عالم فظ ولا إنساني، ويبدو أيّ التقاءٍ ما بين مصائر هذه الشخصيات، بطريقة أو بأخرى مستحيلاً، كما لا أمل لأيٍّ منها في الخلاص.

إلى الأعلى