أخبار عاجلة
“الحقيبة”.. مونودراما الحاجة والافتقاد بين السائح والمهاجر

“الحقيبة”.. مونودراما الحاجة والافتقاد بين السائح والمهاجر

متابعة بتجــرد: حين يبتديء مسافرٌ بإعداد حقيبة السفر، يُحمّلها بما تستلزمه تلك الرحلة، وقد تكبرُ أو تصغُر الحقيبة بمقدار طول الرحلة ومسبّباتها، فحقيبة المسافر سائحاً تختلف عن حقيبة المسافر للعلاج، وكلتاهما مختلفتان عن حقيبة المسافر للدراسة، او لطلب العلم كما يُقال.

تلك هي وقفةٌ أمام ما سيفيدُ وسيُستخدم في الأيام أو الأسابيع التالية.

لكن ما الذي يتوقّف عنده المُغادرُ وطنَه دونما عودة، أو على الأقل، دونما موعدٍ واضحٍ أو مُحدّد للعودة؟ 

هل سيتوقّف عند ما سيحمله في الحقيبة، أم أنّه سيُحدّق طويلاً بما عليه أن يتركه وراءه؟

وبقدْرِ اتّساع البون ما بين ناظريه والأشياء التي يُحدّق فيها، تكبرُ تلك الأشياء وتنطبع في ذاكرته صوراً سيستعيدها طيلة أيام حياته.

وقد يكون من بين كلّ ذلك الكتاب الذي قرّر عدم حمله في الحقيبة، أو زوايا الغرفة أو المكان الذي نام فيه سنيناً، وبالتأكيد سيتذكّر وجوه الأهل ودموعهم التي حفرت على الوجنات أخاديد ساخنة وملتمعة؛ وسيتذكّر بالتأكيد صورة البيت التي يغيب عن ناظريه حين ينعطف في زاوية الدرب يميناً أو يساراً؛ ستصير كلّ تلك الأشياء  صوراً لما قرّر المغادر- المهاجر – الهارب تركها وراءه، خرج، من البيت/الوطن حاملاً على كتفيه حقيبةً فيها ما خفّ وزنه، وعلى رقبته رأساً امتلأ بصور ما ترك وراءه.

وهذه هي صورةُ من غادر دون ان يعلم، ليس فقط، متى سيعود، بل أيضا دون علمٍ أين ستستقرّ به الأيام، إذا ما استقر في يومٍ ما!

وهي أيضاً صورة المهاجر التي يعرضها الممثل الإيطالي جوزيپّي باتّيستون في مسرحيّة “الحقيبة” المقتبسة من مجموعة قصصية بذات العنوان للكاتب الروسي  الراحل سيرجي دوفلاتوف، الذي أُعدّه باتيستون نفسه بالتعاون مع مخرجةٌ العرض باولا روتا.

ففي مونولوج يستمرّ لـ75 دقيقة لا يُغادر فيها الخشبة للحظة واحدة، يؤدي باتّيستون مجموعة كبيرة من الشخصيات بأصوات واعمار ونفسيّات متباينة فيما بينها، وغالباً ما يتداخل أداء شخصيّتين أو أكثر حتى حين تنتفي فُسحة مناسبة للانتقال من شخصيةٍ الى الأخرى.

حقيبةٌ حقيقيّة

سيرجي دوفلاتوف كاتباً صحفياً ومراسلاً لصحيفة “The New American” التي كان يُصدرها الروس المهاجرون باللغة الروسية.

توفي دوفلاتوف عام 1990 وهو لمّا يبلغُ بعد عامه الخمسين، ورأت أعماله النور في الولايات المتحدة وأوروبا بعد عام 1978، وهو العام الذي هاجر فيه إلى فيينا ومن هناك إلى نيويورك، حيث انضم إلى زوجته وابنته.  قبل ذلك كانت أعماله تُتداول في الاتحاد السوفيتي كنسخ سرية.  

والحقيبة التي يروي عنها ومن خلالها، هي حقيبةٌ حقيقيّة، وهي ذاتها التي حملها دوفلاتوف معه حين ترك في منتصف الثمانيات مسقط رأسه لينينجراد إلى الأبد، وصل إلى النمسا أولاً، ومن ثمّ رحل الولايات المتّحدة للهرب من النظام السوفيتي، ليموت هناك بعد شهور قليلة من انهيار النظام.

جمع سيرجي دوفلاتوف في تلك الحقيبة الأشياء القليلة  التي حملها معه عندما قرّر ترك كل شيء وراءه، ولكلّ ما فيها رابطٌ مع حكاية أو شخصية من مكوّنات حياته الشريدة: يكتب: “تساءلتُ في سرّي؛ “هل هذا كل ما في الأمر حقًا؟ – تساءلت، وأجبت: نعم هذا كل شئ”.

ماضٍ دائم الحضور 

العرض الذي أنجزه جوزيبّي باتّيستون بإخراج باولا روتا، عبارة عن رحلة متواصلة، ذهاباً الى الماضي وإياباً إلى الحاضر؛ ذهابٌ لتثبيت الذاكرة، وإيابٌ للتخفيف من أعباء النأي عن الوطن الأم، عن لينينجراد، رحلة يُنجزها سيرجي دوفلاتوف “الشخصية” وراء مايكروفونات استوديو إذاعي، وعبر سردٍ للذكرى تتعاقب فيه الشخصيات والأحداث كما الأشباح.

“إنه عالم مصغر متنوع، واقعي، وبقدر الحزن والبؤس الذي فيه، فهو – كما يقول جوزيبي باتيستون – عالمٌ عميقُ الشاعرية بكل تنويعاته، إنه عالم المقصيّين، الفقراء، المجرمين، والجيف، كما يسميهم دوفلاتوف، “مكوّنات العالم الذي يجذبني إليه بشكل لا يُقاوم، فهي شخصيات تسحرني بشكلٍ خاص”.

وحسب النُقّاد فإن واقعيّة ما تركه دوفلاتوف وراءه يُذكّر كثيراً بمواطنه أنتون تشيخوف (29 يناير 1860 – 15 يوليو 1904)، فيما تُدكّر مرارته بما تركه الأميركي ريموند كراڤر (25 مايو  1938 – 2 أغسطس 1988).

ويقول المخرج والممثل جوزيبي باتيستون “لقد اخترت نص “الحقيبة” لأنه أحد أهم النصوص التي كتبها سيرجي دوفلاتوف، ومن الصعب فصل شخصية المؤلف عن شخصية البطل، فالقصص الواردة في هذالكتاب، في الواقع ، هي في الأساس سيرة ذاتية بطبيعتها”. 

 ويُضيف في كتالوج المسرحية “(الحقيبة) عملٌ يروي قصة إنسان ما بين روسيا والولايات المتحدة، وقد حاولت أن أُجسّد ما يُمكن أن تكون عليها شخصية دوفلاتوف، ولذا فهي بالتالي حقًا من صنع الخيال ، كما ينبغي أن يكون في المسرح.  أنا لا أحب اللعب لا على أوجه التشابه ولا على السرد، لذا بنيتُ شخصية خاصة بي، تمثل، برأيي، روحيّة هذا الكاتب الكبير”.

إلى الأعلى