أخبار عاجلة
رحلة الأغنية الشعبية من مواويل محمد طه إلى موسيقى ويجز!

رحلة الأغنية الشعبية من مواويل محمد طه إلى موسيقى ويجز!

مقالات مختارة – بتجــرد: يُقدِّم الكتاب “تاريخ الغناء الشعبي من الموال إلى الراب” للباحث والكاتب د.ياسر ثابت تفاصيل ومعلومات جديدة تهتم بالتوثيق والتأريخ والتدقيق، تستقصي جذور الغناء الشعبي وأشكاله على امتداد خريطة مصر، كما يخوض رحلة عبر الزمن حتى وقتنا الراهن للحديث بالأسماء والتواريخ والمعلومات عن الغناء الشعبي، صوت المصريين العفوي والتلقائي.

الكتاب سعى إلى سد فراغ كبير في المكتبة الموسيقية المصرية والعربية، من خلال قراءة متعمقة للغناء الشعبي والتطورات التي لحقت به خلال الأعوام الأخيرة، يوضح ثابت أن الموسيقى الشعبية بشكلها الحديث نشأت في ساحات وأسواق الطبقات المتوسطة والفقيرة كنوع من التعبير عن حياة رجل الشارع وما يواجهه من أحداث يومية، والغناء الشعبي المصري قديم قدم الزمان، فالكثير من الباحثين في العصر الحالي يرون أن الأغاني التي يغنيها الفلاحون في الصعيد أثناء عملهم لاستنهاض الهمة والتغلب على قسوة الحياة، ما هي إلا خليط تشكل في وعي الفلاح البسيط من الفلاح الفرعوني الأول وكذلك الفلاح القبطي المسيحي، وأخيرًا نجد كلمات بعينها من الفصحى في اللكنة الصعيدية تغيب عن لكنة القاهرة، وهذا يدلل على تأثره أيضًا بالثقافة العربية وإخضاعها لإطار وعيه العام.

ويضيف “حظيت القرية المصرية بالغناء في صورة تكاد تكون منتشرة في معظم الأقاليم المصرية، وهو غناء الموالد الشعبية وحلقات الذكر والاحتفالات التي تعقد حولها من قبل من كانوا يسمون بالغجر والفنانين الشعبيين المتنقلين. ومع انطلاق الإذاعة المصرية في بدايات ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت شهرة بعض المطربين والزجالين تتسع، وتخرج من نطاق الأقاليم بعينها مثل الصعيد والدلتا لتشمل القطر المصري كله. وبعد رواد يحتاجون لقراءة منفصلة، مثل محمود أبو دراع، ومحمد أفندي العربي، وسيد درويش الطنطاوي، وبهية المحلاوية، زينب المنصورية، وسيدة حسن، استمتع المصريون بأغاني محمد عبدالمطلب “ساكن في حي السيدة”، ومحمد قنديل “يا حلو صبح”، ومحمد العزبي “بهية”، ومحمد رشدي “تحت السجر يا وهيبة”، وكارم محمود “عنابي”، وشفيق جلال “أمونة”، وعمر الجيزاوي “معانا الكحل والنشوق”، وصلاح عبدالحميد أو “الريس حنتيرة” في “الليلة الكبيرة” الذي غنى “شقلبتلي عقلي علوله.. آه يا غزال”، وبحر أبو جريشة “وأخاف لتتوه يا قلبي وتقول الظروف”، وحفني أحمد حسن “وقالي أنت مين؟ أنا مش عارفك”، وعبدالعزيز محمود “حب العزيز.. الربع بقرش”، وعبدالغني السيد “ولا يا ولا”، وعزيز عثمان “بلاليكة” الأغنية الساخرة.

أما الغناء الشعبي الرسمي في مصر، أو بالأحرى الذي استطاع الوصول للإذاعة المصرية في الماضي القريب، فأول من سيتبادر للأذهان عن ذلك النوع هو عدد من الأصوات البارزة مثل محمد عبدالمطلب ومحمود شكوكو وعبدالعزيز محمود وغيرهم.

ويشير ثابت إلى أنه مع انتهاء الموجة الأولى من رموز الغناء الشعبي، يأتي أحمد عدوية الذي غيَّر شكل الأغنية الشعبية لتجنب موضوعات الغزل والغناء عن واقع الناس اليومي، بعيدًا عن المواويل الشعبية المعتادة، وأخيرًا وصلنا لما يعرف بـ “المهرجانات” الشعبية الصاخبة التي عادت ما يقترن اسمها بانتقاد الغناء الشعبي. وتأخذ الأغنية الشعبية لونها الخاص بحسب المنطقة التي تظهر فيها. فللصعيد أغنية وللسهل أغنية وللوادي والبوادي أهازيجه ومواويله. ومن بين أصحاب الإسهامات الكبيرة في تكوين مكتبة كبيرة من الأغنيات الشعبية والغناء البلدي، برز الكاتب زكريا الحجاوي الذي لعب دورًا عظيمًا في هذا الشأن؛ فقد زار ربوع مصر والوجه البحري على وجه التحديد واهتم بإبراز مواهب مثل محمد طه وخضرة محمد خضر والريس متقال وفاطمة سرحان. تلك التركيبة كانت عبقرية؛ لأنها مثّلت كل أقاليم مصر، وأصبحت معبرة عن البيئات المصرية بتعددها؛ فمثلًا نجد أغنيات ومواويل طه ارتبطت ببيئة الفلاحين والدلتا، والريس متقال وجهت أغانيه للصعيد بشكل أكبر.

ويلفت إلى بروز أصوات نسائية في هذا اللون الغنائي، فإضافة إلى خضرة محمد خضر، رأينا فاطمة سرحان التي أجادت مختلف أشكال الغناء الشعبي، وجمالات شيحة، التي بدأت الغناء وهي في سن الثانية عشرة، وروح الفؤاد صاحبة أغنية “سوق بينا يا اسطى على الكورنيش”.

ويقول ثابت “تعددت موضوعات الغناء الشعبي، وكذا الغناء البلدي -الذي يعد أحد أنواع الغناء الشعبي- لتشمل الغناء العاطفي والوطني والديني من خلال القوالب الغنائية التقليدية أو الشعبية، وتم تسجيل بعض المقطوعات من خلال لجنة التسجيل بمؤتمر الموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة عام 1932 تحت عنوان ألحان مصرية (أغان شعبية).

ويرى أن موضوعات الغناء الشعبي تعددت، وكذا الغناء البلدي ـ الذي يعد أحد أنواع الغناء الشعبي ـ لتشمل الغناء العاطفي والوطني والديني من خلال القوالب الغنائية التقليدية أو الشعبية، وتم تسجيل بعض المقطوعات من خلال لجنة التسجيل بمؤتمر الموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة عام 1932 تحت عنوان ألحان مصرية (أغان شعبية). وقد عرفت الثقافة الشعبية في مصر صنفًا من الغناء انتشر عبر واديها من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه بما عُرِف بالموال وأشكاله المتعددة مثل موال “الطير” وموال “أدهم الشرقاوي” و”الجرجاوية” و”حسن ونعيمة”.

ويؤكد أن الغناء ـ تاريخيًا ـ ليس بجديد ولا طارئ على الأذن المصرية والمزاج المصري، بل إن نقوشًا قديمة على المعابد الفرعونية هي خير دليل على مدى امتداد ذلك التراث الغنائي في الزمن واتساع مساحته. وإذا تحدَّثنا عن الغناء البلدي، فإن موضوعات هذا الغناء تصاغ غالبًا في صنفين من النظم الشعري هما الموال والطقطوقة. فأما الطقطوقة فهي أغنية صغيرة من الزجل تمتاز ببساطة اللحن والكلمات وسهولة الأداء. وللطقطوقة أربعة أشكال أساسية: الأول: لحن واحد لكل من المذهب والأغصان. الثاني: لحن واحد للمذهب ولحن مختلف عنه لكل الأغصان. الثالث: مثل الشكل السابق، ولكن الغصن ينتهي بجزء صغير من المذهب. الرابع: يختلف فيه لحن كل غصن عن الآخر وأيضًا يختلف عن المذهب.

ويضيف من جهة أخرى، فإن الموال هو النظم الشعري الأساسي الذي يعتمد عليه المغني البلدي، وهو لون من ألوان الغناء الشعبي. ويُعتقد أن أول من نطق بالموال عند العرب هم موالي البرامكة؛ لذا سُمي مفردها بالموال. والموال عدة أنواع تأتي بحسب الموضوع، منها: الموال الأحمر هو موال الحُب العنيف الذي يصف غدر الحبيب والزمان وهو مليء بالحكم والمعاني والتحسر على ضياع القيم الأخلاقية مثل: من كتر غلبي بدور ع الشجا ملجاه. والموال الأخضر هو موال المودة والحُب والعواطف الجياشة والغزل ويهتم بالطيور والزرع والأشجار والأنهار مثل:

ياللي ناديتك وصوتك رد لباني

الشوق ضنى مهجتي والبعد رباني

ياما سألت النسيم عنك ونباني

وأنا أعمل إيه في هواك يا محير الأفكار

ولك شمايل ملك والحسن رباني.

والموال الأبيض: يتضمن وصف محاسن الأخلاق والتحلي بالدين والصفات الحميدة مثل:

في طور سينا ظهر موسى كليم وخليل

وابن البتول الهداية علم الإنجيل

وساكن الغار هدانا بحكم التنزيل

بدت آيات بينات للزايغ الحيران

وقام لنهج ألفين دليل ودليل

والموال القصصي: هو أحد أنواع المواويل، ويحكي قصة مبنية على حدث أو موقف معين مستمد من المأثور الشعبي ومن أشهر المواويل في مصر آدم الشرقاوي، حسن ونعيمة، وعزيزة ويونس.

ويلاحظ ثابت أن الغناء البلدي في مصر يتسم بعدة سمات، من بينها أولا أنه الغناء المعبر عن البيئة المحلية، حيث يُنسب لأصل البلد، فيقال غناء قبلي أو غناء بحري، ويغلب على هذا الغناء الصنعة والارتجال ويؤديه مطرب محترف بالزي البلد . ثانيا شكل الفرقة الموسيقية تغيَّر نوعًا ما وذلك بإضافة بعض الآلات مثل الأكورديون والقانون والأورج. ثالثا هناك مقامات لم تستخدم مثل مقام سيكاه، ومقامات نادرة الاستخدام، مثل مقام نوأثر ومقامات تستخدم كثيرًا مثل راست وبياتي. رابعا بعض المطربين يستخدمون مقامًا واحدًا في الغناء. خامسا تراوحت المساحة الصوتية للغناء بين درجتي العراف والسهم للرجال ودرجتي البكاه والمحير للنساء. سادسا موضوعات الغناء غالبًا محدودة ومعروفة إما اجتماعية مثل نصائح اجتماعية وحكم وأمثال أو أفراح أو دينية أو غزلية أو عاطفية. سابعا غالبية المطربين البلديين يغنون من تأليفهم وتلحينهم ولديهم قدرة فائقة على الارتجال.

ويلاحظ ثابت أن أغاني “المهرجانات” و”الراب” نسفت فكرة الحد الفاصل ما بين الفن “الرفيع” والفن “الشعبي”، وانتقلت بالجمهور من الرغبة الواعية إلى الرغبة المكبوتة، بمختلف تمثلاتها، وعملت على إطلاق سراح الثقافة الشعبية من الحدود المفروضة عليها. صار بوسع هذه الأغاني أن تتناول أية ظاهرة أو مسألة أو موضوع بريئًا كان أم لم يكن، مستبعدًا ومهمشًا ومحرمًا أيضًا. لهذا فإن قدرتها على التأثير سواء من حيث سهولة تداولها وانتشارها، أو من حيث كونها قصيرة وقادرة على إيصال الرسالة بعبارات قليلة جدًا، تجعلها أداة تغيير بالغة التأثير”.

ويوضح أنه إذا كانت ظاهرة أغاني “المهرجانات” و”الراب” و”التراب” لم تخضع للدرس والبحث حتى الآن، كعلامة على واقع التغيرات الاجتماعية، فإنها تبقى موضوعًا بالغ الأهمية للكشف أيضًا عن التغيرات في تركيبة الثقافة الشعبية، والذوق العام، والمزاج الفني، والسلوك الاجتماعي. ولعل هذا ما يزيد من أهمية هذا الكتاب.

ويناقش ثابت ظاهرة الراب، لافتا إلى أبرز رموزها الحالية في مصر: “ويجز”، الذي يعد المغني المصري الأكثر استماعًا على “سبوتيفاي” في عامي 2020 و2021. وهو مطرب مصري مزج بين موسيقى “التراب” و”المهرجانات”، وصنع تركيبة موسيقية تجمع بين الموسيقى المحلية والتأثيرات العالمية. ويكفي أن نشير إلى أن “ويجز” أشعل جنبات منطقة المشجعين داخل استاد لوسيل بين شوطي مباراة الأرجنتين وفرنسا، في نهائي مونديال قطر 2022، بأغنيته “عز العرب”، التي حققت 1.5 مليون مشاهدة خلال أربعة أيام. قدَّم “ويجز” استعراضًا غنائيًا، وهو يرتدي الجلباب، وتفاعل الجمهور مع العرض الراقص الذي صمّمت رقصاته المصرية ليلى غالب. وبالأرقام، يتابع “ويجز” قرابة 10 ملايين متابع على مواقع التواصل الاجتماعي، منهم 3.2 مليون متابع على يوتيوب، و2.8 مليون متابع على فيسبوك، و3.3 مليون متابع على إنستغرام، و385 ألف متابع على تويتر.

ويؤكد أنه بدا لكثيرين أن “ويجز” يمثل تحديًا لمنظومة سيطرة الشلل الفنية والثقافية السائدة، وبات ثمرةً لديمقراطية التكنولوجيا التي تسمح لنماذج من الهامش بأن تحتل المتن طالما أنها تمتلك الموهبة والقدرة على التقاط روح العصر. لقد تناول “ويجز” منذ ظهوره الكثير من الموضوعات، والتي من الممكن اعتبار أنها الخيوط التي يسير على دربها “الراب” المصري. وتحفل أغانيه والتي يؤلفها في الغالب، بالحديث عن نفسه ومعاناته الشخصية، سواء كانت هذه المعاناة بسبب تردي وضعه الاجتماعي قبل الشهرة، أو بسبب الخوف من عدم تقبل المجتمع له ولطموحاته، وهي سمة غالبة لأغاني “الراب” المصري عامةً، فالمعاناة هنا تنتقل من كونها شخصية تخص “ويجز” وزملاءه فقط لتعبِّر عن معاناة هذا الجيل بأكمله، والتحديات التي أجبروا على مجابهتها بصدور عارية.

إلى الأعلى