“السيدة هاريس في باريس”.. فيلم زاهي الألوان والقصة

“السيدة هاريس في باريس”.. فيلم زاهي الألوان والقصة

متابعة بتجــرد: بينما تتجه الشركات الكبرى إلى إنتاج أفلام الخيال العلمي بميزانيات ضخمة، وبكمية هائلة تتخم السوق، وتفسح المجال بجانبها لأفلام الرعب والجريمة كي تبقى مسيطرة على عقول الشباب والمراهقين، يجد البعض لنفسه مساحة، ولو صغيرة، ليقتحم الشاشة بأفلام هادئة ناعمة، ترسم الابتسامة على وجه المشاهد، وإن لم تكن كلها رائعة ومدهشة. تماماً مثل فيلم «السيدة هاريس تذهب إلى باريس» المعروض في الصالات، والذي ينتمي إلى الأفلام الكوميدية الدرامية التي تحاكي الفئة العمرية ما فوق الخمسين عاماً، ولكنها تعتبر من الأفلام العائلية التي يستمتع الجميع بمشاهدتها، وإن نأخذ على الفيلم بعض العيوب التي أضعفته.

أول انطباع يتركه لديك «السيدة هاريس تذهب إلى باريس» حتى قبل الانتهاء من مشاهدته، أنه فيلم وردي، زاهي الألوان والقصة، كأنه من حكايات الخيال التي تقترب من الواقع، وتحلق أعلى منه قليلاً كي تنعش المشاهد وتبهجه برَشّة تفاؤل. البطلة الرئيسية امرأة تجاوزت الخمسين، بل ربما الستين، هي محور الأحداث ومعها بعض «الكبار» مثلها، بينما يأتي الشباب العشريني والثلاثيني في الأدوار الثانوية. الدور مناسب شكلاً وسنّاً للنجمة ليزلي مانفيل (66 عاماً)، يقابلها النجمان جايسن إسحاق بدور الصديق القديم والجار الوفي أرتشي، ولامبرت ويلسون بدور الماركيز دو شاساين النبيل الكريم، وصديقتها المخلصة فيوليت باترفيلد وتؤديها بتميز إيلين توماس.

زهور

روح الفيلم وطريقة التصوير والإخراج والأزياء وملامح البطلة ومشيتها ونظراتها وديكور منزلها.. تفاصيل كثيرة، تنقلك مباشرة من هذا الفيلم وهذه الشخصية إلى شخصية خيالية أخرى دائمة التفاؤل والابتسامة ومحاطة بالزهور، حتى في ملابسها، وقبعتها اسمها «ماري بوبنز» (1964). وبرع المخرج أنطوني فابيان في تقديم لوحة فنية جميلة تناسب أجواء الفترة الزمنية ما بين 1950 و1957، أي الفترة الانتقالية ما بين أحداث الرواية المأخوذ عنها الفيلم وتلك التي نقلنا إليها برؤية سينمائية كتب لها السيناريو مجموعة مؤلفين: كارول كارترايت، كيث طومسون، أوليفيا هيتريد، إضافة إلى المخرج أنطوني فابيان، من دون المساس بروح الرواية وتفاصيلها الأصلية.

البطلة أدا هاريس، هي أرملة فقدت زوجها في حرب 1944، مقيمة في لندن وتعمل مدبرة منزل متواضعة، تنتقل من بيت إلى آخر، الكل يثق بها، ويحبها، لأنها طيبة القلب، الابتسامة لا تفارق وجهها، تسرع إلى نجدة الجميع، ومدّ يد العون حتى ولو على حساب سعادتها، لدرجة أنها تخجل من طلب أجرها من الليدي دانت (أنّا شانسلور) التي تدعي عدم قدرتها على الدفع بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الجميع بسبب الحرب، بينما ترى أدا بأم عينيها كيف تبذّر الليدي دانت أموالها، وقد اشترت فستاناً رائعاً من دار «كريستيان ديور» في باريس ب500 جنيه.

حلم

الفستان سلب عقل أدا، وقررت أن تجمع مبلغ ال 500 جنيه وأكثر منه، لتتمكن من السفر إلى باريس من أجل شراء فستان من تصميم «كريستيان ديور». سبق أن شاهدنا أفلاماً تدور حول عالم الأزياء والموضة، غير تلك التي تتناول سيرة مصممين عالميين، مثل إيف سان لوران، و«السيدة هاريس تذهب إلى باريس» يتميز بأنه ينقلنا إلى عالم ديور الساحر، وأزياء الخمسينات الرائعة والراقية، مع التركيز على قصة إنسانية تتجسد بالبطلة «أدا» التي تسعى إلى تحقيق حلمها بعد أن تقدمت في السن، ورحل زوجها، حيث يريد التأكيد أن الحلم والطموح ليسا مرهونين بسن معينة، أو مستوى اجتماعي رفيع، ومن حق المرأة العاملة البسيطة أن تحلم بارتداء أفخم الأزياء، وتسعى بالطرق المشروعة، ومن تعبها، إلى تحقيق هذا الحلم وإن اقتضى الأمر أن تركب الطائرة وتسافر إلى باريس.

الأحلام لا تقتصر على الشباب، ولا السعي خلف الأمنيات والرغبات يتوقف عند سن المراهقة، أو حتى الثلاثينات من العمر.. لا هدف من تلك الرواية ومن مغامرات السيدة هاريس سوى زرع الأمل في النفوس، والتمسك بالحلم بشدة بقناعة تامة بأنه لا بد أن يتحقق كما خطط له المرء، أو بطريقة مختلفة قد تفاجئنا، كما فوجئت «أدا» في نهاية الفيلم. وهنا لا بد من الثناء على البطلة ليزلي مانفيل المتفاعلة مع الدور بكل أحاسيسها، تقنع الجمهور منذ المشهد الأول بأنها تلك عاملة التنظيف البسيطة، حسنة النية، اللاهثة من مكان إلى آخر من أجل كسب لقمة عيشها، ورغم الإمكانات المحدودة تجمع كل مدخراتها من أجل شراء ثوب. وباستدارة عينيها ولمعانهما تنقل إليك الحالة النفسية التي تعيشها، فتفرح معها أحياناً، وتحزن لحزنها حيناً.

طبعاً إذا عدنا إلى الواقع، نجد أن الحلم وما فعلته «أدا» غير منطقي، ولن تفعله امرأة تشقى لكسب رزقها بهذا الشكل، حتى ولو كانت تعيش بالجوار من دار أزياء «كريستيان ديور»، لا مثل السيدة هاريس التي تكبدت مشقة السفر من لندن إلى باريس من دون أن تحجز غرفة في فندق لأنها ستشتري الثوب وتعود في اليوم نفسه، كما خططت، لكن الأحداث تجرفها باتجاه آخر، وتجد نفسها جالسة وسط الأثرياء تشاهد العرض الحي لأزياء «ديور» الذي يختار من خلاله الزبائن الفساتين، أو الأزياء التي يريدون شراءها. في دار «كريستيان ديور» تواجه السيدة هاريس صعوبات وعراقيل، تضطرها للبقاء في باريس، وبفضل قلبها الطيب تكسب ود العاملين والعاملات هناك، باستثناء مديرة الدار مدام كولبير (إيزابيل هوبيرت) التي تفعل المستحيل لتمنع ارتداء «أدا» ثوباً يحمل توقيع «ديور»، لأنها عاملة نظافة فقط، رغم استعدادها لدفع ثمنه كاملاً، وفوراً.

الواقع والجوهر

وفي الحوار بين كولبير وهاريس معان كثيرة، خصوصاً حين تقول لها «أنت لا أحد، أنت غير مرئية.. لماذا تشترين الفستان، أين سترتدينه؟». وحين تكتشف «أدا» أن دار «كريستيان ديور» تعاني أزمة اقتصادية ستتسبب بطرد عدد كبير من الموظفين، يقول لها مدير الحسابات أندريه فوفيل (لوكاس برافو) «نحن مثل القصص الخرافية جميلة هي، لكنها ليست حقيقية». كما يعكس الفيلم هذه العبارة في الاختلاف بين ما يراه الناس والجوهر، أي ما هو حقيقي، من خلال عارضة الأزياء الأشهر لدى «ديور» نتاشا (ألبا باتيستا) التي تلاحقها الأضواء وينظر إليها الجميع بإعجاب، بينما هي في الحقيقة بسيطة، رومانسية مثقفة، تعشق قراءة الشعر والكتب الفلسفية.

«أدا» هي رمز للشغف والعزيمة والحب، والفيلم لطيف لكن أحداثه لا تحتمل الساعة و55 دقيقة.

بين لندن وباريس

الفيلم قديم، إن جاز التعبير، أي أنه مأخوذ عن رواية كتبها بول جاليكو وصدرت عام 1958، وتدور أحداثها في لندن أولاً ثم باريس، في عام 1950، وكان عنوانها بالأصل «زهور إلى السيدة هاريس»، ثم تحولت إلى «السيدة أريس تذهب إلى باريس» وقدمها المخرج أنطوني بولن شو عام 1992 في فيلم بنفس العنوان بطولة النجمة المحبوبة أنجيلا لانزبيري بدور السيدة أدا أريس (أو هاريس)، وعمر الشريف الذي قام بدور الماركيز هيبوليت، وهو نفسه الماركيز دو شاساين في الفيلم الحديث والذي أداه برقي شديد النجم لامبرت ويلسون.

إلى الأعلى