أخبار عاجلة
“بلفاست”.. فيلم يستحضر الحرب بمشاهد تذكِّر بالروابط بين المواطنين

“بلفاست”.. فيلم يستحضر الحرب بمشاهد تذكِّر بالروابط بين المواطنين

نقلنا لكم – بتجــرد: عد أن اختتم تصوير ومونتاج فيلمه الأخير “موت على النيل” بداية عام ألفين وعشرين، وجد المخرج والممثل البريطاني كينيث براناه نفسه حبيساً في الحجر الصحي الذي فرضته السلطات البريطانية على سكان لندن بعد تفشي فيروس كورونا المتجدد في البلاد، لكن ذلك الحبس الفيزيائي منح المنتج الغزير، الحرية الإبداعية لتحقيق مشروع كان يختمر في ذهنه سنين طويلة يستعيد ذكريات طفولته في مسقط رأسه «بلفاست»، عاصمة شمال إيرلندا، حيث ولد هناك عام 1960 وترعرع فيها حتى التاسعة من عمره، عندما هاجر أهله إلى بريطانيا بعد اشتعال الحرب الأهلية بين البروتستانت والكاثوليك.

وهكذا شرع براناه في كتابة نص “بلفاست” الذي عبر فيه عن حنينه لطفولته ووصفه كرسالة حب لعائلته وأهل بلده. وبعد انتهائه من كتابته، أرسله إلى أخته وأخيه لقراءته، وعندما جاء رد فعلهم الحماسي له، بدأ بإنتاجه متحدياً قيود العمل، التي فُرضت بسبب أزمة كوفيد-19، وأكمل تصوير الفيلم في لندن و “بلفاست” في شهر أيلول/سبتمبر تحت إجراءات صحية مشددة، وقدم عرضه الأول بعد عام في مهرجان تورنتو الدولي للأفلام الأخير، حيث فاز بجائزة الجمهور التي تعتبر أهم مؤشر لأوسكار أفضل فيلم، وبات يتصدر التكهنات بالهيمنة على أهم جوائز الأوسكار هذا الموسم.

تدور أحداث “بلفاست” عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين وتتمحور حول عائلة بروتستانتية تقطن في حي الطبقة العاملة شمالي مدينة “بلفاست”، تنقلب حياتها رأساً على عقب عندما تشتعل الاضطرابات بين البروتستانت والكاثوليك في شمال إيرلندا. وتطرح أحداثه من منظور طفل في التاسعة من العمر يدعى بادي.

في الواقع، الصراع في شمال إيرلندا لم يكن دينياً، بل كان سياسياً وقومياً، بدأ عام ألف وستمائة وثمانية عندما مُنح مستوطنون إنكليز واسكتلنديين، من البروتستانت، أراض تمت مصادرتها من الإيرلنديين الأصليين، الذين كانوا من الكاثوليك، في أولستر، عندما كانت إيرلندا تخضع للحكم البريطاني. واشتعلت الصراعات الدموية بين الطرفين إلى أن تم تقسيم جزيرة إيرلندا عام ألف وتسعمائة وعشرين إلى جزئين: الشمالي: ذي أغلبية اتحاديين بروتوستانت، وهم الذين أرادوا البقاء في المملكة المتحدة، والجنوبي، حيث خاض الكاثوليك القوميون حرباً ضد بريطانيا ونالوا الاستقلال عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرين.

أما الكاثوليك في شمال إيرلندا فتعرضوا للتمييز من قبل الحكومة والشرطة هناك، فقاموا بحملات احتجاج تصدت لها السلطات بشراسة، ما أدى إلى تصاعد العنف بين الطوائف، وتحول إلى صراع دموي عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين، بات يعرف بالمشاكل، التي استمرت ثلاثين عاماً وانتهت باتفاق الجمعة العظيمة عام 1998.

بادي الطفل لا يعرف هذه الخلفية الدموية ويستصعب فهم بشاعة الصراع بين جيرانه، الذين كانوا يعيشون في الشارع نفسه بسلام قبل اندلاع الاشتباكات ويزورون بعضهم البعض في بيوتهم. وعندما يقع بحب زميلته الكاثوليكية في المدرسة يتساءل إذا كان هناك مستقبلا لعلاقتهما، لكن هوسه بها يخمد تلك التساؤلات ويلجأ إلى نصائح جدية من أجل استمالتها.

يحلم بالسفر إلى القمر

ويستمر بادي في مغامرات طفولته الخالية من الهموم وكأن “بلفاست” كانت ديزني لاند وليس ساحة معركة دموية. ففضلا عن الرومانس مع زميلته، يُسحر بالأفلام التي يشاهدها مع عائلته ويحلم بالسفر إلى القمر فضلا عن مشاركته في سرقة متجر أثناء فترات الاضطرابات ظناً منه أنها لعبة.

يجسد دور بادي الطفل الشمال يرلندي ابن الـ 11 عاما، جود هيل، الذي يقدم أداءً رائعا ويقودنا في رحلة جميلة ومليئة بالمرح في عالم قد يكون داكناً ومروعاً من منظور البالغين، ما يجعلنا نشعر بالحنين لطفولتنا، مثل براناه، الذي أحاطه بممثلين غالبيتهم العظمى من الإيرلنديين مثل كاترينا بالف وجيمي دورنان، اللذين يؤديان دوري والديه، فضلاً عن كيران هايندز الذي يجسد دور جده. وتنضم إليهم الممثلة الإنكليزية العريقة، جودي دينش في دور الجدة.

دورنان: الفيلم يعكس تحديات العائلات

وفي حديث “القدس العربي” مع دورنان الأسبوع الماضي، قال إنه أيضا شعر مثل بادي عندما كان يترعرع في ضواحي “بلفاست” حيث ولد هناك عام 1982. “مع أني ولدت وسط الصراع بينما بادي كان شاهدا على بدايته، لم يكن بإمكاني فهمه وهذا المثير للاهتمام وهو ما تمكن كينيث من تصويره بشكل جيد من خلال بادي. فوالداه لا يريدان الصراع وجداه لا يريدانه وكذلك الأمر بالنسبة لأغلبية سكان الحي وهكذا كنت أنظر للأمر ولطالما تساءلت في نشأتي: من يريد ذلك فعلاً؟ من يريد حربا أهلية تمتد 30 سنة؟ ليس الناس العاديون الصالحون بل قوة أخرى حركته وسيطرت عليه. وأعتقد أن مقاربة الأمر من منظور عائلة عادية تحاول فقط النجاة هو أمر مهم للغاية.”

فعلا، براناه لا يحصر الفيلم في تجارب عائلته الخاصة وحسب، بل أراد أن تعكس عائلة بادي تجارب وتحديات كل العائلات الشمال الإيرلندية خلال الحرب الاهلية بغض النظر عن انتمائها الطائفي أو طبقتها الاجتماعية. لهذا منح ممثليه الحرية في تجسيد شخصياتهم حسب رؤيتهم وتجربتهم كإيرلنديين لكي يحقق الفيلم شمولية أوسع.

فدورنان، على سبيل المثال، ترعرع في عائلة من الطبقة الوسطى، وهو ما منحه امتيازات خلال نشأته لم يحظ بها براناه ابن العائلة العاملة، الأمر الذي جعل تجربتهما الشخصية تختلف عن بعضها. لكن مثل براناه، دورنان أيضاً هاجر من شمال إيرلندا عام 2002 إلى لندن، حيث مارس التمثيل وعرض الأزياء حتى حقق النجومية عندما قام بدور بطولة فيلم الإغراء، خمسون ظلا من غري.

“لقد منحنا حرية، لم نشعر بمثلها أبداً في أي موقع تصوير،” يعلق دورنان. “لم يحاول جذبنا في اتجاه معين أو يفرض تفسيرا لشخصية الأهل وكيفية استجابتهم لتلك الظروف. بل كان الأمر بالأحرى تعبيراً عن ذواتنا. وأراد لنا أن نعبر عن تأثيرنا وأفكارنا الخاصة من خلال تلك الشخصيات. ومن حسن حظي إنني من المكان نفسه وبالتالي تلك الأفكار أو السمات التي أود إضافتها أفهمها وأعرفها وأعرف هؤلاء الأشخاص، أجيال من عائلتي. فليس لي سوى (بلفاست) وتلك البقعة في العالم هي خلفيتي، وذلك ما جعلني واثقاً بالإسهامات التي يمكن أن أقدمها.”

لكن الفيلم يحقق شمولية أوسع من نطاق “بلفاست”، إذ أنه لا يسبر الصراع في شمال إيرلندا، الذي يبدو كغيره من الصراعات في بلدان أخرى، ويركز على العائلة ومحاولاتها التأقلم في ذلك الواقع العصيب. فوالد بادي يرفض محاولات مليشيات الاتحاديين جره في الصراع ويتصدى لتهديداتهم، ويركز كل جهوده في حماية عائلته وإيجاد لقمة العيش لها. وعندما يخسر عمله كنجار ويغرق بالديون، يسافر إلى إنكلترا للبحث عن عمل هناك حيث يقضي جل وقته بعيدا عن عائلته من أجل تسديد ديونها. وعندما تزداد الأمور تأزماً يقرر أن ينقل عائلته إلى مكان آمن بعيداً عن شمال إيرلندا مثل أستراليا أو كندا.

أحداث الفيلم بالأبيض و الأسود

لكن الفيلم ليس داكنا، بل إنه غني بمشاهد المرح والدعابة، التي تعكس براءة بادي والروابط الحميمية في عائلته. فالعائلة في مثل هذه الأزمات الوجودية تصبح الحصن الذي يحتمي فيه أفرادها ويجدون متعة الحياة في ظل المآسي التي تحيطهم. لهذا يرفض بادي أن يهجر جديه. فحتى الطفل يدرك أن لا معنى للحياة بدون العائلة.

صوّر براناه أحداث الفيلم بالأسود والأبيض ولا تظهر الألوان إلا على شاشة السينما حيث يشاهد بادي وعائلته الأفلام الهوليودية مثل “مليون سنة قبل الميلاد” و”تشيتي تشيتي بانغ بانغ” التي تنقلهم إلى عوالم مصبوغة بألوان الحياة الجميلة بعيدا عن “بلفاست” الرمادية ومآسيها.

لهذا يستحضر “بلفاست” فيلم روما، الحائز على أربع جوائز أوسكار للمخرج المكسيكي الفونسو كوارون، الذي يستعيد فيه ذكريات طفولته في بداية السبعينيات عندما كانت المكسيك تشهد أزمة سياسية. لكنه لم يقدمه من منظوره بل من منظور العاملة المنزلية في بيت عائلته معتمداً على الجماليات البصرية والسمعية المذهلة في طرحه بدلاً من دفء شخصياته وروابطها الحميمة والحوارات الفكاهية التي تميز “بلفاست”.

مع أن أحداث “بلفاست” تدور قبل أكثر من خمسين عاماً، إلا أنها تبدو معاصرة وتستحضر المشقات التي تواجهها ملايين العائلات في حروب الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وتدفعها إلى انتزاع أطفالهم الأبرياء من بيئتهم إلى عالم غريب لا يعرفونه. فهل سيحقق الفيلم أول جائزة أوسكار لبرانا، الذي رشح خمس مرات من قبل؟

إلى الأعلى